تحقيق – وفاء العسكري
ليس منطقيًا أن يتواجد إنسان في هذا الكوكب دون ماضي، فالذكريات المتواجدة في الماضي هى من تصنع شخصيتنا الحالية، إذا ظهرت لك مشكلة نفسية تكتشف أن سببها كان حدوث شئ في الماضي، ولكن هل يُعقل أن تتعلق بالماضي إلى حد الجنون؟.
قالت “سارة محسن”: “وأنا في الخامسة عشر من عمري، كنت دائمًا أخاف من البشر، وربما المجتمع بأكمله بسبب الذكريات التي تكونت لدي منذ الصغر، فلقد خانتني أحد أصدقائي، ولم يكن الأمر سهلًا في تجاوزه، لأنها كانت صديقتي المقربة، وصنعنا ذكريات رائعة عندما اتذكرها أشعر بالسعادة”.
وتابعت “سارة”: “ولكن بعد العديد من المواقف تيقنت أنها ذكريات كاذبة لم تكن بمشاعر حقيقية، ولكن استغرق عقلي الكثير من الأعوام لتجاوز تلك الحقائق، ولكن الآن وأنا في العشرين من عمري مازالت اتذكر تلك الأيام وابكي عليها، ولتجاوز ذلك الأمر حاولت التأكد من مشاعر الأخرين قبل التقرب من قلبي”.
حكت “أمال السيد” عن تجربتها: “عملت أني متعلقة بالماضي عندما لحظت أني في كل يوم اتذكر كل ما حدث، وكأن هذا الشئ يحدث الآن بكل تفاصيله، وبعد مرحلة الثانوية العامة اعتقدت أن بدخولي الجامعة والنجاح بمجالي، سينتهي حزن الثانوية العامة، ولكن لم يحدث ذلك”.
وأضافت “أمال”: “في كل ليلة اتذكر أيام الدروس الخصوصية التي كنت أذهب إليها، أتذكر أصدقائي، حتى خوف ليلة الامتحانات مازالت اتذكره، ولكن يوم النتيجة هو يوم لا يُنسى، مازالت اشعر حتى الآن ببرودة جسدي يومها، اتذكر الصدمة على وجهي كما لو أنني أراني من الخارج”.
واستطردت “السيد”: “اتذكر كل تفصيلة لذلك اليوم، ولكن عندما يبدأ عقلي في التفكير في ذلك اليوم احاول السيطرة عليه عن طريق إشغاله، أما في القراءة أو الدراسة أو العمل، وأن لم يسمح لي وقتي بالقيام بأي من ذلك، فورًا اضغط عقلي حتى يفكر في اي يوم سعيد مررت به”.
تحدث “أحمد الشوبكي” عن تجربته: “أنا بالفعل متعلق بالماضي، فلا استطيع نسيان أي ذكرة مهما كانت سيئة أو جيدة، حتى اللحظات السعيدة المميزة التي كانت مع من أحب مازالت اتذكرها بكل ما حدث بها، ولحظات الضعف التي انهرت بها أيضًا اتذكرها جيدًا، وأنا مصاب بالتفكير الزائد”.
وأكمل “أحمد”: “أثناء ذهابي للنوم، يبدأ عقلي في تذكر كل شئ من أول يوم لي بالمدرسة حتى أول يوم بالجامعة، وهنالك بعض الأشخاص المميزين اتذكر تفاصيل وجههم في مواقف محددة تجعلني اشعر بالسعادة، وذلك للتخلص من الأفكار السيئة، وأن لم تسعفني ذاكرتي اذهب للتحدث مع شخص قريب لقلبي حتى انغمس في النوم”.
قال “إبراهيم عزت”: “عندما أكون وحيدًا لا اتحدث مع أحد، أو لا أحد معي بالمنزل، ابدأ بالتفكير في الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي، وافكر كم هى تقوم بالتقصير على علاقاتي الحالية، إذا كانت مع ذاتي أو مع غيري، وكم كنت على خطأ، ولو فعلت هذا لكن أفضل، ولكن لا فائدة”.
وواصل “إبراهيم” حديثه: “لا فائدة لأني الآن بالحاضر، ومن المفترض أن أفكر في المستقبل لا العكس، ولذلك استطيع الخروج من دوامة التفكير تلك بسهولة، عن طريق الاقتناع أن ما حدث حدث ولا استطيع تغيير شئ، ولكن استطيع منعه إذا حدث مرة أخرى، وهكذا تسير الأمور معي”.
فسر “الدكتور أحمد العربي دكتور علم النفس بجامعة المنصورة”: “تلك الحالة تسمى النستالجيا وهى مصطلح يستخدم لوصف مشاعر الحنين إلى الماضي، فهى تجربة شخصية تتأثر بالذكريات والتجارب الفردية، ولها تأثير كبير على مشاعر الأفراد في الوقت الحاضر والمستقبلي أيضًا”.
وأوضح “أحمد العربي”: “وهنالك بعض الأعراض التي تظهر على الفرد المصاب بالتعلق بالماضي، ومنها الندم والحزن المستمر بسبب الأخطاء والأحداث السلبية، التي حدثت في الماضي وتظهر من جديد في ذهنه، والانطواء والانعزال فالتعلق بالماضي قد يؤدي إلى انسحاب الفرد من العلاقات الإجتماعية والتفاعل مع الآخرين”.
وأضاف “الدكتور”: “وبالطبع التفكير المكثف في الماضي، فالشخص الذي يقضي وقتًا طويلًا في التفكير والتذكر المفصل للأحداث التي تمر بها فهو مصاب، والقلق المستمر من تكرار تجربة الماضي في الوقت الحاضر وتأثيره على مستقبله، وصعوبات التكيف مع التغيرات كما نطلق عليه شخص غير متأقلم”.
واستطرد “دكتور علم النفس”: “فيجد الشخص أو الفرد صعوبة في التكيف مع التغييرات والتحديات الجديدة، بسبب خوفه وتركيزه الزائد على ما حدث في الماضي، وأنه يجب أن لا يفعل ذلك مرة أخرى، وليس ذلك فقط بل يتجنب التحديات والفرص الجديدة أيضًا، خوفًا من تكرار الخطأ الحادث في الماضي”.
وتابع “العربي”: “النقطة الأخطر من وجهة نظري هى انشغاله بأخطاء الماضي، ويصل إلى مرحلة الهوس بتلك الأخطاء ولا تنفصل عن هويته، إلى جانب قلة اتخاذ القرارات وضعف العزيمة، فيصعب عليه اتخاذ أية قرار مصيري في حياته بسبب التفكير المستمر في الماضي، والتشتت العاطفي الذي يسببه التفكير مما يجعل الفرد لا يركز أو يستمتع بالحياة”.
وأكمل “دكتور أحمد”: “والاهتمام الضئيل بالمستقبل يُعد واحدًا من أبرز العلامات التي تبرز الشخص المُصاب، فيميل إلى تجاهل المستقبل أو التخطيط له أو التفكير في الأهداف والطموحات التي يريد تحقيقها، وغالبًا تعثر عليه حزينًا في أغلب الوقت، ويرى فقط الجانب الأسود من الحياة، وينكر أي موقف لطيف أو سعيد حدث له”.
وفسرت “الدكتورة بسمة فهمي الإستشارية النفسية” أسباب التعلق بالماضي: “هنالك العديد من الأسباب فمنها أن يمتلك الفرد مرض نفسي، مثل الاكتئاب أو التفكير الزائد أو اضطراب ما بعد الصدمة وغيرها من الإضطرابات، التي تزيد من توتر الفرد وتجعله أكثر عرضه للتعلق بالماضي، وقلة الدعم والتوجيه”.
وأوضحت “الدكتورة”: والدعم هنا لا يشترط نفسي فقط بل يشمل بالنسبة الأكبر الجانب العاطفي، فعدم وجود الدعم العاطفي يساعد الشخص على تخطي التجارب السيئة التي مر بها، فيزداد تعلقه بالماضي الذي يرى أنه كالقوقعة التي ينتمي إليها، مادام لم يخرجه شخص من تلك القوقعة”.
وأضافت “بسمة”: “والأحداث السلبية التي يمر بها الفرد أيضًا، أحد أهم أسباب التعلق بالماضي فإذا تعلق الحدث بشئ مميز بطريقة سلبية، فقد يكون من الصعب ترك ذلك الحدث دون تكراره في الذاكرة، والندم والشعور بالذنب أيضًا والخوف من تكرار الخطأ مرة أخرى، وتواجد المشاعر المُعقدة في آن واحد مثل الحب والكره، فهذا يجعل الأمر من الصعب التخلص منه”.
وعن الخطوات التي يُمكن أن تساعد المُصاب، فقالت “الإستشارية النفسية”: “أولًا وعي الفرد بالمشاعر والأفكار التي يلعب عليها عقله، فإذا حاول فهم ما يشعر به ولماذا يشعر بهذا؟، إن اكتشف هذا سيُحل الأمر من تلقاء نفسه، وهنالك أشخاص في حاجة إلى التحدث لمختص نفسي، حتى يساعده في خطوات علاجه وتخطي المشكلة”.
وأضافت “بسمة فهمي”: “وغير المختص النفسي يحاول من تلقاء نفسه تحديد أهدافه وطموحاته للمستقبل، فهذا يساعده في الابتعاد عن التفكير الزائد والمفرط في أحداث الماضي، إلى جانب تقدير اللحظة الحالية فإذا حاول الشخص تقدير اللحظة الحالية التي يعيشها الآن بكامل وعيه، سيحاول تقضيتها في ممارسة بعض الأنشطة المقربة لقلبه”.
واختتمت “الإستشارية” حديثها: “والتي تعمل على الاستمتاع بالحاضر، وبناء وتعزيز العلاقات الإيجابية مع أشخاص يريدون وجوده بجانبهم، ويحاولون اسعاده بقدر الإمكان، ومحاولة الاقتناع أن الماضي هنا للتعلم منه، وليس للخوف من تكرار الأخطاء وأن الإنسان يخطأ لا أحد معصوم من الخطأ ولكن لا نكرره، والاهتمام بالصحة العامة، سيساعد على تحسين النفسية”.