تحقيق – مريم ناصر
رغم ما يعيشه المجتمع المصري اليوم من أزمات وتحديات حقيقية، كالبطالة وارتفاع تكاليف المعيشة وتدهور الصحة النفسية، فإن دراما 2025 بدت وكأنها تدير ظهرها لكل ذلك، مفضلة التركيز على مشاهد الأكشن، والمطاردات، والمواقف الكوميدية الخفيفة، وباستثناءات نادرة غابت الأعمال التي تلامس قضايا الناس وتعكس معاناتهم اليومية.
يلاحظ من يتابع الدراما المصرية في السنوات الأخيرة بوضوح هذا التحول، ففي السابق كانت الشاشات تمتلئ بأعمال درامية تفتح ملفات مجتمعية مهمة وتحرك الرأي العام، كما رأينا في مسلسل “لام شمسية” الذي تناول موضوعات التحرش، والعنف الطبقي، والتعليم، وغيرها من القضايا الحساسة، فقد تراجع هذا النوع من الطرح، وكأن صناع الدراما قرروا الابتعاد عن الواقع والاكتفاء بالمسارات الآمنة تجاريًّا.
وأصبح الموسم الدرامي محكومًا باعتبارات السوق والمشاهدة، يغلب عليه الطابع الترفيهي الخفيف ويبتعد عن الاشتباك مع هموم المجتمع الحقيقية، فتراجعت الرسالة وخسرت الدراما جزءًا من دورها التوعوي الذي جعل منها مرآة تعبر عن الناس وتعكس تفاصيل حياتهم اليومية.
الدراما التي أثارت الوعي.. نماذج من أعمال خالدة في تاريخ السينما
لم يكن دور الدراما المصرية يومًا مقتصرًا على التسلية، ولكنه أداة فعالة لمخاطبة الوعي الإجتماعي، ونافذة تطل منها قضايا الناس على الرأي العام، فقد برزت أعمال درامية خلال السنوات الماضية وتناولت بجرأة وصدق قضايا شائكة تمس جوهر المجتمع، واستطاعت أن تثير نقاشات ممتدة بعد عرضها، بل وتحفز على التغيير.
ويعد مسلسل “سجن النسا” من أبرز أعمال الدراما في 2014، فقدم حكاية مؤثرة لثلاث نساء دفعتهن قسوة الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية إلى إرتكاب جرائم خلافًا للقانون، ليواجهن عقوبة السجن، وبعد محاولات للخروج من دوائر الانكسار والبدء من جديد، يصطدمن بواقع أكثر قسوة، حيث يرفض المجتمع منحهن فرصة ثانية، ويحاصرهن بالوصم والتمييز الطبقي، ما يدفعهن للعودة إلى نفس المسار وانتهاء الرحلة خلف القضبان مرة أخرى، المسلسل كشف بواقعية مؤلمة مأزق المهمشين حين يحاكمون على ذنوب صنعها الفقر والخذلان المجتمعي.
أما مسلسل “تحت السيطرة” واحدًا من أبرز هذه الأعمال لعام 2015، إذ اقترب من موضوع الإدمان بزاوية إنسانية غير معتادة، بعيدًا عن الوعظ أو التخويف، وقد كشف العمل الجانب المظلم في حياة المدمنين، ومعاناتهم مع نظرة المجتمع القاسية، كما ناقش مفهوم “الإنتكاسة” والدور الحيوي للدعم النفسي والإجتماعي في رحلة العلاج، وقد ساهم في تغيير نظرة الكثيرين لهذه الفئة، وأثار موجة من التعاطف والفهم بدلًا من الإدانة.
وجاء في عمل أكثر قربًا من البيوت المصرية مسلسل “أبو العروسة” الذي تناول تفاصيل الحياة اليومية لأسرة من الطبقة المتوسطة، من خلال شخصية الموظف البسيط “عبد الحميد”، طرح المسلسل مشكلات اجتماعية واقتصادية مثل أعباء الزواج، تفاوت الطبقات، وصراعات الأجيال داخل الأسرة، بأسلوب واقعي بعيد عن المبالغة، نجح العمل في الوصول لقلوب المشاهدين، وعبر عن صوت شريحة كبيرة من المجتمع.
ولعل أبرز الأعمال في 2025، هو مسلسل “لام شمسية”، حيث سلط الضوء ليضيء منطقة حساسة في المجتمع، بتناوله الآثار النفسية العميقة للإعتداء الجنسي على الأطفال، وخصوصًا حين يصدر من دوائر قريبة داخل الأسرة، العمل لم يكتفي بطرح القضية، بل تعمق في تفكيك شبكة العلاقات المريضة التي تخفي الحقيقة حفاظًا على المظهر الإجتماعي، كما عالج أزمات أسرية وزوجية تتداخل فيها القسوة مع الصمت، والكتمان مع التبرير.
وبالإضافة إلى مسلسل “ولاد الشمس”، الذي سلط الضوء على قضية مهمة، ليكشف واقعًا مسكوتًا عنه، عبر تناول أزمة فساد في البعض من دار الأيتام، من خلال قصة الشابين “ولعة” و”مفتاح” اللذين كبرا داخل دار الأيتام، وظلو يعيشون فيه حتى بعد بلوغهما السن القانوني للخروج، يدور حول استغلال الأطفال داخل هذه المؤسسات.
وحيث يجبران على ممارسة السرقة لصالح مدير الدار، في تجسيد صارخ لتحول الرعاية إلى استغلال، ويقدم العمل السينمائي واقع إنساني مؤلم لواقع هؤلاء الأطفال، الذين لا يكفي أن يخرجوا من الدار حتى ينجوا، إذ تطاردهم تبعات الماضي، ويصطدمون بجدران مجتمع لا يمنحهم فرصة للتعافي.
كما أن هذه الأعمال لم تمر مرور الكرام، بل تجاوزت حدود الشاشة لتصل إلى دوائر النقاش في البيوت والمقاهي ووسائل التواصل الإجتماعي، وأسهمت في تكوين رأي عام أكثر وعيًا، وأكثر جرأة في التطرق إلى موضوعات كانت في السابق من المسكوت عنه، وهو ما يؤكد أن الدراما ليست مجرد وسيلة تعكس الواقع، بل أداة فعّالة يمكن أن تسهم في تغييره.
صوت العقول في زمن الترفيه.. الدراما المصرية في مفترق طرق
يؤكد الناقد الفني “طارق الشناوي”، أن الإهتمام بالفن والدراما والثقافة ليس رفاهية، بل ضرورة لحماية الهوية المصرية، وأن الفنون بمختلف أشكالها، من موسيقى ومسرح ودراما، تمثل خط الدفاع الأول ضد التلوث الفكري، ويشير إلى أن تاريخ مصر الفني ممتد منذ الفراعنة، ما يستوجب من الدولة والمجتمع دعم هذا التراث، ويؤكد أن الإبداع لا يزدهر إلا في مناخ حر ومنفتح، فكلما زادت المساحة أمام الأفكار، أزداد الإنتاج تنوعًا وعمقًا.
ويضيف “الشناوي” أن دراما 2025 رغم طغيان الطابع الترفيهي، لم تخل من أعمال جادة، فقد ناقشت مسلسلات مثل “ولاد الشمس”، و”لام شمسية” قضايا شائكة بجرأة فنية، واستطاعت أن توصل رسائلها للجمهور دون أن تتخلى عن جاذبيتها، ويرى أن الجمهور المصري ما زال يتمتع بذوق رفيع، ويستطيع التفاعل مع المحتوى العميق، ويطالب دائمًا بفتح الباب أمام الدراما التي تصف الواقع، وتتناول القضايا الإنسانية، مؤكدًا أن الفن حين يترك دون قيود ينجح في كسب القلوب والعقول.
ويرى أن السوشيال ميديا لا تمثل دائمًا انعكاسًا صادقًا، بل أحيانًا تروج لآراء متطرفة أو سطحية، ويشير إلى أن تقييم الأعمال الفنية يجب ألا يخضع فقط لردود الأفعال الرقمية، بل لما تحدثه من أثر حقيقي في المجتمع، ويوضح أن مفهوم “البطل” نفسه تغير بسبب تأثير المنصات والتعليقات السريعة، ويرفض الشناوي فكرة اقتصار الفن على نمط جاد أو نموذج محدد، فالفن في رأيه يجب أن يظل متحررًا من القوالب، ومتعدد في النماذج.
ويشدد الناقد الفني على أهمية أن تظل الدراما أداة للتعبير الحر، قائلًا: “إن الكوميديا ليست ضد العمق، بل أحيانًا تكون طريقًا أسرع للوصول إلى الوجدان، ويطالب بعدم التقليل من قيمة الأعمال الكوميدية، فهي قادرة على تقديم نقد اجتماعي، وأن التصنيف بين دراما جادة وأخرى خفيفة تصنيف غير عادل، فالأعمال الكوميدية حين تكتب بوعي، تترك أثرًا طويلًا في تفكير الجمهور، وختم بقوله إن الفن لا يقاس بالجدية فقط، بل بالتأثير”.
وفي السياق نفسه، تؤكد “نسرين عبد العزيز” الناقدة الفنية، أن انتشار مسلسلات الـ 15 حلقة لم يكن مصادفة، بل ناتج عن توجه واعٍ من صناع الدراما، وتشير إلى أن هذا النوع ساهم في تقديم محتوى أكثر تركيزًا ومرونة في التناول، كما أتاح الجمع بين الكوميديا والدراما في أعمال متعددة، دون الوقوع في فخ “المط”، وتضيف أن هذا الشكل يناسب جمهور المنصات الرقمية الباحث عن الإيقاع السريع، وهو ما فرض نفسه تدريجيًا على السوق.
وترى “نسرين” أن كثرة حلقات المسلسلات القديمة كانت أحيانًا تضعف الحبكة، وتشوش التركيز على القضايا، أما النموذج القصير، فيساعد في تحديد الفكرة بدقة، ويشجع على التنوع بين المواضيع، وتوضح أن التحول نحو هذا النمط، وإن كان مدفوعًا بالمنافسة، إلا أنه يحمل فرصًا كبيرة للتجديد، وتؤمن بأن الدراما المصرية قادرة على الجمع بين المتعة والطرح الجاد، بشرط أن يتاح للمبدعين مساحة كافية للتجريب بعيدًا عن الضغط التجاري المباشر.
ورغم سيطرة الطابع الكوميدي على أغلب الأعمال، إلا أن الدراما المصرية مازالت تملك القدرة على التأثير، خاصة حين تكتب بصدق وتمنح مساحتها من الحرية، فالجمهور لا يرفض القضايا الجادة، بل يتفاعل معها حين تقدّم بأسلوب قريب من واقعه تفاصيل حياتنا، لكن في الوقت الحالي أصبح الاهتمام بنسب المشاهدات والترند، وهو ما دفع كثيرًا من الأعمال إلى الابتعاد عن رسالتها الأساسية.
وحين تتحول الدراما إلى مجرد محتوى خفيف يسعى فقط لإرضاء الجمهور، تفقد جانبًا كبيرًا من قيمتها وتأثيرها، أما عندما تروي حكايات الناس بوعي وعمق، فإنها تلامس وجدانهم وتبقى حاضرة في ذاكرتهم، فالدراما الحقيقية لم تكن يومًا وسيلة للترفيه فقط، بل كانت دائمًا صوتًا يعبر عن المجتمع وينقل همومه بصدق وجرأة.