تحقيق – بسملة الجمل
يغير مرور الوقت شكل القرى المصرية بهدوء غير مرئي، لا تأتي التحولات من الطرق الجديدة أو العمران فقط، بل من إشعارات الهواتف التي تقتحم البيوت وتعيد تشكيل تفاصيل الحياة اليومية، من فيديو عابر إلى صورة منتشرة، تتحرك العادات كما لو كانت بتتعلم لغة جديدة.
ويهاجر الشباب إلى المدن حاملين أحلامًا أكبر من حدود القرية، ويعود البعض منهم بنظرات مختلفة، وذوق مختلف، وطريقة حياة لا تشبه البدايات، كما يترك الغياب مساحات فارغة في البيوت والمناسبات، كأن الدفء القديم بقى يزوغ من التفاصيل.
ويراقب كبار السن التغيرات بنظرة مزدوجة بين القلق والفضول، يخافون تآكل العادات القديمة، ويتعاملون مع الوافد الجديد كواقع مفروض لا يمكن تجاهله، تتباعد المسافة بين جيل يحدد حياته عبر شاشة مضيئة وجيل آخر يتمسك بإيقاع الحياة البطيء كما عرفه دائمًا.
ويتكون اليوم مجتمع جديد داخل القرى خليط من العادات القديمة المتوارثة، والطباع الرقمية التي فرضتها السوشيال ميديا، والنتائج العميقة للهجرة الداخلية التي غيرت شكل العلاقات والروابط اليومية.
وأكدت “ريم محمد” أن وسائل التواصل الاجتماعي غيرت ملامح الحياة في القرية بشكل واضح، موضحة أن الأهالي باتوا يطلعون على العالم الواسع من خلال هواتفهم، فتبدلت الأفكار وتغيرت كثير من العادات، إذ أصبحت الفتيات يستوحين أساليبهن من المشاهير، وأصبح الشباب يقلدون الاتجاهات الرائجة، حتى الجلسات العائلية لم تعد كما كانت، بعدما انشغل كل فرد بعالمه داخل شاشة هاتفه.
وأشار “محمد السيد” إلى أن بعض العادات القديمة بدأت تختفي بفعل السوشيال ميديا، موضحًا أن “المعايدة” والزيارة المباشرة في المناسبات لم تعد عادة ثابتة كما كانت، بعدما أصبح كثيرون يكتفون بإرسال رسالة أو تعليق بدل الذهاب إلى بيت الجيران أو الأقارب، مما أضعف روح التواصل التي كانت تميز القرية قديمًا.
وأوضحت “أميرة علي” أن السوشيال ميديا بالفعل دفعت كثيرًا من الشباب إلى تفضيل الهجرة للمدن، مؤكدة أن الصور والفيديوهات التي تظهر أسلوب الحياة في المدن الكبيرة خلقت لدى الشباب رغبة في تجربة نفس الإيقاع السريع والفرص الواسعة، حتى لو كانت الصورة أحيانًا غير واقعية، مضيفة أن المقارنات المستمرة التي يراها الشباب يوميًا جعلت القرية تبدو لهم أبطأ وأقل جاذبية، مما زاد رغبتهم في البحث عن مستقبل مختلف خارجها.
وأكد “أيمن محمد” أن غياب الشباب عن القرية أثر بشكل واضح على الحياة اليومية، موضّحًا أن كثيرًا من الأعمال التي كانت تعتمد على وجودهم أصبحت تنجز بصعوبة، وأن النشاط الاجتماعي قل بعدما اختفت الطاقة والحركة التي كانوا يضيفونها للشارع والمناسبات، مضيفًا أن القرى باتت تبدو أكثر هدوءًا وأقل حيوية، وكأن جزءًا من روحها اختفى برحيلهم.
وأشارت “إيمان السيد” إلى أن الهجرة الداخلية أدت إلى تراجع ملحوظ في العادات القديمة، موضحة أن غياب الشباب جعل بعض الأعمال اليومية والتقاليد المجتمعية تختفي تدريجيًا، مثل المساعدة المتبادلة بين الجيران والمشاركة في الأنشطة الجماعية، مما جعل القرية تفقد جزءًا من روح التعاون والترابط التي كانت تميزها.
وأوضحت “ماجدة منجدي” أن الجيل الجديد أصبح مختلفًا تمامًا عن الجيل السابق، موضحة أن طرق التفكير والاهتمامات تغيرت بشكل ملحوظ بسبب السوشيال ميديا والهجرة الداخلية، حيث أصبح الشباب أكثر انفتاحًا على العالم الخارجي، أقل تمسكًا بالعادات والتقاليد القديمة، وأكثر اعتمادًا على التكنولوجيا في حياتهم اليومية والتواصل الاجتماعي.
الطب النفسي يكشف تأثير السوشيال ميديا والهجرة على التوازن النفسي للشباب
أوضح الدكتور محمد الوصيفي أستاذ الطب النفسي وعلاج الادمان بكلية الطب بجامعة المنصورة، أن السوشيال ميديا تؤثر على مستوى التوتر عند الشباب في القرى، مشيرًا إلى أن الاستخدام المكثف والمتواصل يزيد من القلق بسبب المقارنات المستمرة، والضغط الاجتماعي الذي يشعر به الشباب في حياتهم اليومية.
وأكد الدكتور النفسي أن الاستخدام المفرط للإنترنت قد يؤدي للشعور بالضغط النفسي والاكتئاب، موضحًا أن التعرض المستمر للأخبار والمحتوى الرقمي يرهق الذهن ويؤثر على الصحة النفسية، خاصة إذا افتقد الشباب مهارات التعامل مع الضغوط الواقعية.
كذلك أشار الدكتور محمد الوصيفي إلى أن مشاهدة حياة الآخرين على الإنترنت تؤثر على رضا الشخص عن حياته، مبينًا أن المقارنات المستمرة مع صور حياة مثالية تجعل البعض يشعرون بالنقص والإحباط، وتقل لديهم مشاعر الرضا عن إنجازاتهم.

الدكتور محمد الوصيفي دكتور الطب النفسي
وشدد “الوصيفي” على أن السوشيال ميديا تؤثر على مهارات التواصل الاجتماعي والعلاقات الأسرية، مبينًا أن الاعتماد المفرط على الرسائل والمكالمات الرقمية يقلل من التفاعل الواقعي، ويضعف مهارات الحوار والتفاهم داخل الأسرة والمجتمع المحلي.
وبين أن هناك فرقًا نفسيًا واضحًا بين الذين يستخدمون السوشيال ميديا بشكل معتدل والمفرط، موضحًا أن الاستخدام المعتدل يحافظ على التوازن النفسي والاجتماعي، بينما الاستخدام المفرط يسبب ضغوطًا مستمرة، وشعورًا بالعزلة والاكتئاب.
كذلك أوضح الدكتور محمد الوصيفي أن الانتقال من القرية إلى المدينة يؤثر على الشخص نفسيًا بشكل كبير، مشيرًا إلى أن التغيير المفاجئ في البيئة والروتين يزيد من شعور الغربة والتوتر، كما يحتاج الفرد وقتًا طويلًا للتكيف.
كما أكد الدكتور النفسي أن البعد عن الأسرة والأصدقاء لفترات طويلة يؤثر على الهوية الشخصية والانتماء، موضحًا أن الانفصال الجسدي يضعف الروابط العاطفية، كذلك يخلق شعورًا بالغربة النفسية لدى الشباب.
وأشار “الوصيفي” إلى أن قلة التواصل مع الجذور الاجتماعية تؤثر على المشاعر والأمان النفسي، مبينًا أن الانقطاع عن المجتمع المحلي يخلق شعورًا بالوحدة وفقدان الدعم العاطفي، مما يزيد مستويات القلق والإحباط.
وشدد الدكتور محمد الوصيفي على أن الأطفال والمراهقين في القرى التي هاجر أهلها يعانون من مشاكل نفسية محددة، مثل شعور بالوحدة، صعوبة التركيز في الدراسة، وانخفاض الثقة بالنفس بسبب غياب الدعم الأسري المباشر.
وبين أن متابعة الحياة في المدن الكبيرة على الإنترنت تزيد الإحساس بالوحدة والنقص عند الباقين في القرى، موضحًا أن الصور والفيديوهات التي تصور حياة مزدهرة تجعل البعض يقارنون حياتهم بها باستمرار، مما يولد شعورًا بالحرمان أو القصور.
وأوضح “الوصيفي” أن التكنولوجيا والسوشيال ميديا قد تساعد أحيانًا على التكيف النفسي مع الهجرة من خلال توفير تواصل مستمر مع الأسرة والأصدقاء، لكنه شدد على أنها قد تزيد صعوبة التكيف، إذا اعتمد الشخص عليها بالكامل دون المشاركة في المجتمع الجديد أو التفاعل المباشر مع البيئة المحيطة.
القرى المصرية بين الجذور والتغيير الرقمي
تتغير الحياة في القرى المصرية بوتيرة خفية، بينما تمتزج العادات القديمة مع الجديد الرقمي، ويصبح كل شارع وكل بيت شاهدًا على تباين الأجيال، وتداخل الحكايات بين الماضي والحاضر.
كما تسعى الأسر للتكيف مع الواقع المتغير، فتوازن بين الحفاظ على ما تبقى من التقاليد والانفتاح على عالم واسع عبر الشاشات، محاولة ألا يختفي دفء العلاقات التي شكلت هوية القرية، لسنوات طويلة.
وتدعو هذه التغيرات إلى التأمل في المستقبل، فالشباب يحملون الآن أدوات التواصل والمعرفة، بينما المجتمع يحاول أن يجد مكانه بين التقاليد والحداثة، لتبقى الروابط الإنسانية والجذور الاجتماعية هي العمود الفقري، الذي يحمي القرية من أن تفقد روحها بالكامل.
وتترك هذه المشاهد أثرًا واضحًا على كل من يعيش في القرية، من الكبير إلى الصغير، وتؤكد أن التغير ليس مجرد حدث عابر، بل عملية مستمرة ستكتب فصولها القادمة على مدار السنوات، بين الهواتف، والشوارع، والقلوب التي تحاول التكيف مع كل جديد.






