تحقيق ـ بسملة الجمل
كان ينام كل ليلة وهو يعيد في ذهنه آخر حضن، آخر ضحكة، وآخر مرة سمع فيها كلمة “يا حبيبي” من أمه، لم يمت أحد، لكنها اختفت كأنها لم تكن، بعد أن قررت أن تبدأ حياة جديدة بعيدًا عنه، طفل لم يختر طلاق والديه، ولم يفهم لماذا غابت الأم التي كانت تمسح دموعه، فجأة، أصبح في حضانة والده، أو في رعاية الجدة.
وذلك بعد أن تزوجت الأم من جديد وابتعدت، وربما لم تعد تسأل حتى عن اسمه، وبعيدًا عن صراع الطلاق وتقسيم المسؤوليات، هناك طرف ضعيف ينسى دائمًا، الطفل وتدفن حقوقه بين قرارات الكبار، ومشاعره تتحول إلى أسئلة معلقة لا تجد إجابة.
أم باعت حنانها مقابل بداية جديدة.. والضحايا طفلتان
عاشت “د.ع”، وهي سيدة من مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، ظروفًا صعبة بعد وفاة والديها، واضطرت للإقامة في بيت شقيقها وزوجته منذ صغرها، تزوجت لاحقًا من رجل وانتقلت للعيش معه في القاهرة، لكنها اعتادت على ترك منزل الزوجية عند كل خلاف، والعودة إلى بيت أخيها.
حتى بعد إنجابها لابنتين، كما ألحت على زوجها مرارًا بالطلاق، حتى استجاب لها أخيرًا وأنهى العلاقة، فعادت إلى بيت أخيها مصطحبة طفلتيها، وسط تساؤلات العائلة والجيران عن مستقبل الطفلتين.
وقررت فجأة أن ترسل الطفلتين إلى والدهما ليتولى مسؤولية تربيتهما والإنفاق عليهما، مبررة القرار بأنها “تعبت ومش قادرة تكمل ومش عارفه تصرف عليهم”، رغم أن الطفلتين كانتا في أمس الحاجة لحضنها وحنانها.
كذلك ارتبطت بشخص جديد يدعى “م.ع”، وبدأت تظهر معه في مناسبات عائلية وغير عائلية وهي تضحك وتمازحه كثيرًا، مما أثار دهشة كل من يعرفها، خاصةً بعد انتشار خبر قراءة الفاتحة ونية الزواج.
صدمت الجميع بتصرفها، إذ تجاهلت تمامًا وجود أطفالها، ولم تعد تراهم إلا نادرًا، وحتى عند زيارتهم لها في الإجازات، كانت تتعجل إعادتهم إلى والدهم، دون اهتمام حقيقي أو سؤال.
وأخذت منهم ألعابًا أحضرها لهم والدهم، ووضعتها ضمن جهاز زواجها، وكأنها تخلت عن أمومتها بكل تفاصيلها، لدرجة أن الألعاب كانت أول ما فكرت في تخزينه لحياتها الجديدة.
وتزوجت بالفعل من الرجل الجديد، وتركت ابنتيها في رعاية أبيهما، غير عابئة بما يمران به من فراغ عاطفي وكسرة نفس، ليبقى السؤال “هل تمحى الأمومة بمجرد بدء حياة جديدة”.
سؤال بلا إجابة.. لماذا تخلّت أمي عني
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكدت “أميرة علي” أن الطفل هو الطرف الأكثر تضررًا بعد الطلاق، موضحة أن الزوجين يمتلكان قدرة أكبر على تجاوز الأزمة والمضي قدمًا في حياتهما، سواء بالزواج مرة أخرى أو بالانشغال في العمل وبناء حياة جديدة، بينما يظل الطفل عالقًا في منتصف الطريق.
لا يفهم ما حدث ولا يملك وسيلة للتعبير عن ألمه، وتابعت موضحة أن غياب الأم بعد الزواج مرة أخرى يترك جرحًا نفسيًا غائرًا في قلب الطفل، مشيرة إلى أن أكثر ما يؤلم الأطفال في هذه الحالات هو السؤال الصامت: “لماذا تخلّت أمي عني؟”، وهو سؤال يظل يطاردهم لسنوات طويلة دون إجابة.
الطفل لا يفهم الظروف.. لكنه يشعر بالخذلان
أشار “أحمد السيد” إلى أن تصرف بعض الأمهات اللواتي يتزوجن بعد الطلاق ويتركن أطفالهن تصرف صادم ولا يمكن تبريره تحت أي ظرف، موضحًا أن الأم هي الحضن الأول والملجأ الآمن للطفل، والتخلي عنها يترك أثرًا نفسيًا عميقًا لا يمحى بسهولة.
وأضاف قائلًا: “مهما كانت ظروفها أو حياتها الجديدة، ماينفعش تنسى إن فيه طفل محتاجها، محتاج حنانها وسؤالها، محتاج يحس إنها لسه أمه حتى لو مش عايشة معاه”، كما أكد أن الطفل لا يفهم حسابات الكبار، لكنه يشعر بكل لحظة غياب، ويكبر وفي قلبه فراغ لا يملؤه أحد.
الأب لا يستطيع أن يكون أمًا، والطفل بحاجة لكليهما
أوضحت “ريم محمد” أن الأب مهما كان حريصًا ومحبًا، لا يستطيع بمفرده تعويض غياب الأم أو تربية الأبناء وحده بالشكل الذي يحتاجه الطفل، واعتبرت أن لكل من الأم والأب دورًا مختلفًا ومتكاملًا في حياة الطفل.
وغياب أحدهما، خاصةً الأم، يخلق خللًا نفسيًا وعاطفيًا يصعب تجاوزه، مضيفة: “الأب ممكن يوفر الأمان والمسؤولية، لكن حنية الأم، حضنها، صوتها، ده كله مالوش بديل، الطفل محتاج الاثنين علشان يكبر سليم نفسيًا”.
الحياة الجديدة ليست مبررًا لترك قلب صغير خلفك
أكد “عمر سامح” أنه من الصعب أن يسامح والدته لو كانت تزوجت وتركته في طفولته دون أن تسأل عنه أو تتابع حياته، قائلًا: “أنا ممكن أستوعب إن أمي تبدأ حياة جديدة، لكن عمري ما هفهم ليه حياتها الجديدة لازم تكون من غيري”.
كذلك أوضح أن الطفل لا يطلب الكثير، فقط أن يشعر أنه مازال في قلب أمه، حتى لو لم تعد تعيش معه، مشيرًا إلى أن الجرح الناتج عن غياب الأم في سن صغيرة يترك أثرًا لا يزول بسهولة، ويظل محفورًا في الذاكرة مهما كبر الإنسان.
الحياة تبدأ من جديد.. لكن الأمومة لا تنتهي
أشارت “ياسمين أحمد” إلى أنها لو كانت في مكان الأم فلن تختار أبدًا الزواج على حساب أولادها، موضحة أن الأمومة مسؤولية لا تنتهي بمجرد الطلاق أو بدء حياة جديدة، قائلة: “ممكن أتجوز، بس مستحيل أسيب ولادي أو أبعد عنهم”.
وأكدت قائلة: “لأنهم جزء مني، ونجاح أي حياة جديدة لازم يكون فيها رضا ضميري تجاههم”، موضحة أن الأم التي تتخلى عن أولادها بإرادتها، وتقطع علاقتها بهم، تظلمهم نفسيًا وتظلم نفسها أيضًا، لأن الحب الحقيقي للأبناء لا يعرف شروطًا ولا يتأثر بالظروف.
الزواج لا يبرر الغياب.. وجرح الطفل لا يشفى بسهولة
أوضح “أيمن محمد” أن الزواج لا يمكن أبدًا أن يكون مبررًا كافيًا لتترك الأم أولادها، مؤكدًا أن الأمومة مسؤولية مستمرة لا تنتهي بتغير الظروف أو دخول شخص جديد إلى حياتها، قائلًا: “الزوج ممكن يتغير، لكن الولاد هما اللي بيكملوا مع الأم العمر كله، وحرام تبيعهم علشان تبدأ من جديد”.
مضيفًا أن الأطفال لا يدركون معاني الضرورة أو الظروف التي قد تضطر الأم للابتعاد، فهم لا يرون سوى أن الأم قد رحلت وابتعدت عنهم، وهذا الشعور وحده كفيل بأن يحطمهم نفسيًا، وتابع قائلًا: “الطفل لا يهمه من تزوجت أو لماذا غابت، كل ما يعرفه أنها لم تعد بجانبه، وهذا يكفي ليترك داخله جرحًا لا يشفى بسهولة”.
حين يدفع الطفل ثمن اختيارات الكبار
تظل الأمومة مسؤولية لا تتغير بتغير الأزواج، ولا تنتهي بتبدل الأحوال، فالطفل لا يفهم مبررات الغياب، ولا يستطيع أن يترجم القرارات المعقدة للكبار، كل ما يشعر به هو الفقد، والوحدة، والخذلان.
وفي الوقت الذي يسعى فيه الجميع لبداية جديدة، يظل هو محاصرًا بأسئلة لا تجاب وحنين لا يروى، فهل يكفي الزواج مبررًا للتخلي، وهل يمكن لمجتمع يغفل صوت الأطفال أن يربي أجيالًا متوازنة، ربما آن الأوان أن نصغي بصدق لدموع لا ترى، ونعيد للطفولة حقها في الحب، قبل أن نطلب منها أن تسامح.