تحقيق – نسمة هاني
في القرى والمناطق الريفية، حيث الفرص شحيحة والأمل معلّق على مشروع صغير قد يغيّر الحياة، لجأ الآلاف من المواطنين إلى الاقتراض عبر برامج “التمويل متناهي الصغر”، ومع ضعف التوعية وغياب الرقابة الكافية، تحوّلت هذه القروض من فرصة إلى فخ، ووجد كثير من المواطنين أنفسهم ضحايا للديون أو التهديد بالسجن، بل دخل بعضهم فعليًا وراء القضبان.
قصص من الواقع بدأت بأمل وانتهت بندم
تقول أم إبراهيم: “حصلت على قرض عشرة آلاف جنيه لفتح محل منظفات، كنت ألتزم بسداد القسط، ولكن عندما مرض زوجي، تأخرتُ في قسطين فقط، فبدأت التهديدات جاء موظفو الجمعية، أخذوا البضاعة، وقالوا لي بالحرف: “إما الدفع، أو السجن”.
ويحكي عبد الرحمن “اقترضت 15 ألف جنيه لشراء ماكينة لحام، المشروع لم يُدر ربحًا كافيًا، وكانت الأقساط الأسبوعية أكبر من قدرتي، حاولت الاستمرار، ثم اضطررت لبيع الماكينة وحتى اليوم، ما زلت أسدد”.
تروي هدى عماد “صديقتي طلبت مني أن آخذ قرضًا باسمها، وعدتني أنها ستسدده بالكامل شهريًا، وبالفعل دفعت أول شهر، ثم اختفت تمامًا أصبحت مطالَبة الآن وحدي أمام الجمعية، وأنا لا أملك شيئًا”.
وأوضح محمود فوزي “أحد جيراني استدان لشراء بقرة يربيها، ماتت البقرة بعد شهرين، ولم يعد لديه ما يربح منه، بدأ يبيع من أرضه ليسدد، وفي النهاية، باع قطعة الأرض التي ورثها عن والده، وما زال مديونًا”.
وأضافت منار “كنت أبيع خضارًا في السوق، وأردت توسيع النشاط، حصلت على قرض، لكن القسط بدأ يُطلب بعد أيام قليلة من استلامي المال، قبل أن أحقق أي ربح، اضطررت إلى أخذ قرض ثانٍ وثالث، واليوم، أنا مديونة لأربع جمعيات مختلفة”.
وأشار جمعة محمد “نحن لا نطلب إعفاءً من السداد، بل فقط نريد فرصة نشتغل فيها ونقدر نعيش، ليس من الطبيعي أن يوقّع الإنسان على إيصال أمانة في جمعية، ويظل خائفًا كل يوم من الطرق على الباب”.
القرض الصغير من فرصة إلى عبء
رغم أن فكرة التمويل متناهي الصغر طُرحت في الأساس كأداة لتشجيع المشروعات الصغيرة ومساعدة الفئات المهمّشة على تحسين أوضاعها الاقتصادية، فإن التطبيق العملي كشف عن مشكلات عميقة في بعض المناطق، فالكثير من المواطنين لا يحصلون على شرح وافٍ لشروط القرض أو تفاصيل السداد، ويُطلب منهم التوقيع على مستندات وإيصالات أمانة دون إدراك لما قد يترتب على ذلك قانونيًا.
رأي المحامية شيماء المجيدي العقود قانونية ومُلزمة إذا استوفت الشروط
قالت المحامية شيماء المجيدي: “إن العقود التي توقعها السيدات مع شركات التمويل تُعد قانونية وسليمة إذا استوفت الشروط القانونية العامة للعقود، وأوضحت أن هذه العقود يجب أن تكون مكتوبة، وأن تتضمن بيانات الأطراف المتعاقدة، وموضوع العقد، وشروط التعاقد، وتاريخ ومكان التوقيع، مشيرة إلى أهمية أن تكون خالية من أي عيوب في الإرادة مثل الغش أو الإكراه أو التدليس”.

المستشارة شيماء المجيدي
وأضافت “الاستاذة شيماء” أن هذه العقود تخضع للقانون المدني، وتُعد ملزمة للطرفين ما دامت توافرت فيها شروط الصحة، ومنها: “الأهلية القانونية للطرفين، وجود رضا حقيقي دون ضغوط، مشروعية الموضوع والسبب، والصياغة السليمة للعقد”.
وأكدت أن التوقيع لا يعني دومًا أن الطرف الآخر فاهم لكل البنود، لذا من المهم أن يتم الاطلاع على العقد ومراجعته قبل التوقيع، خاصة أن كثيرًا من الحالات التي تتورّط في مشكلات قانونية يكون سببها الجهل بما تم التوقيع عليه.
وشددت على أن من حق أي سيدة ترى أنها تضررت من العقد، أو وقّعت عليه تحت ضغط أو دون وعي كامل، أن تلجأ للقضاء، وأن تستعين بمحامٍ لمراجعة العقود أو طلب التحقق من صحتها قبل التوقيع عليها.
ويُضاف إلى ذلك أن نظام السداد الأسبوعي، والذي غالبًا ما يبدأ بعد أيام قليلة من استلام القرض، يُثقل كاهل المقترض قبل أن يبدأ مشروعه في تحقيق أي دخل، ويجد البعض نفسه مضطرًا للحصول على قرض آخر لسداد القرض الأول، فيدخل في دائرة مفرغة تُعرف بـ”القرض الدوّار”، وتتفاقم المشكلة بوجود وسطاء أو سماسرة يحصلون على نسب من القرض، ما يقلل من القيمة الفعلية التي تصل إلى المواطن، ويضاعف التزامه المالي لاحقًا.
وسط كل ذلك، تغيب الرقابة الحقيقية على بعض الجمعيات ومكاتب التمويل، بينما يتحمّل المواطن وحده العواقب.
دور الرقابة المالية في تلك الكارثة
بحسب تقرير صدر عن هيئة الرقابة المالية، بلغ عدد العملاء النشطين في التمويل متناهي الصغر في مصر نحو 4.3 مليون مواطن حتى نهاية عام 2023، وبلغت قيمة المحفظة الإجمالية حوالي 47.5 مليار جنيه، ورغم هذا الانتشار، ما زالت الحماية القانونية للمقترضين محدودة، وتفتقر كثير من الجمعيات إلى معايير الشفافية والعدالة في شروط الإقراض.
وتُظهر بيانات رسمية صادرة عن الهيئة العامة للرقابة المالية أن عدد الجهات العاملة في نشاط التمويل متناهي الصغر بلغ 1,038 مؤسسة وجمعية وشركة حتى نهاية الربع الأول من عام 2025، تنتشر عبر 3,595 فرعًا و4,633 منفذًا تمويليًا في مختلف أنحاء الجمهورية، وهو ما يعكس اتساع رقعة هذا النشاط مقابل ضعف الرقابة في بعض المناطق.
حلول بسيطة لكنها غائبة
لا يرفض المواطنون فكرة التمويل، بل يرون فيها أملًا حقيقيًا متى توفرت لها الضمانات الكافية، ما يطلبه الضحايا لا يزيد عن إجراءات واضحة تحفظ حقوقهم، تبدأ بتأجيل أول قسط لبضعة أسابيع لحين تمكّنهم من تشغيل المشروع وجني أول أرباحه، وتوفير آلية بديلة عن إيصالات الأمانة التي تُستخدم كوسيلة ضغط وتهديد.
كما يطالبون برقابة فعلية من الدولة على الجهات المانحة، خاصة في المناطق الريفية، إلى جانب حملات توعية بلغة مبسطة تساعد المواطنين على فهم حقوقهم وواجباتهم قبل التوقيع على أي مستند، وهم لا يطلبون إعفاءً ولا منحًا مجانية، بل نظامًا إنسانيًا يوفر لهم الحماية ويمنحهم فرصة حقيقية لتحسين حياتهم.
ومن بين الحلول التي يقترحها المواطنون أنفسهم: “إنشاء لجان مجتمعية أو حكومية محلية للتوسّط قبل إحالة الحالات إلى النيابة، وفرض فترة سماح لا تقل عن شهر قبل بدء السداد، وإلزام الجمعيات بتقديم نسخة مبسطة وواضحة من بنود العقد، بلغة مفهومة للمواطنين، ومنع الجمعيات من تسليم القروض عبر وسطاء أو سماسرة يقتطعون نسبًا غير قانونية من المبلغ الأصلي”.
حين يصبح الفقر جريمة
تبدو المفارقة مؤلمة حين يتحوّل الفقر، لا إلى سبب للدعم، بل إلى ذريعة للملاحقة والعقوبة، مواطنون لجأوا إلى القرض لتحسين حياتهم، فوجدوا أنفسهم مهدّدين بالحبس، ومحرومين من الحد الأدنى من الاستقرار، وفي ظل غياب آليات الحماية، يصبح الاقتراض مخاطرةً قد تدفع الإنسان إلى فقدان ممتلكاته، وربما حريته.
متى يتجرأ صانع القرار على المواجهة
عشرات القصص المؤلمة، وآلاف الأسر العالقة في دوامة الديون، وملايين الجنيهات التي تتحرك بلا رقابة كافية، تكشف عن أزمة لا يمكن إنكارها، ومع استمرار توسّع برامج التمويل متناهي الصغر، يصبح التدخل الرسمي ضرورة ملحّة لا خيارًا، من أجل وضع حدٍ لحالات الاستغلال، وتوفير آليات تضمن الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية والقانونية للمواطنين.
التمويل متناهي الصغر قد يكون أداةً قوية للنهوض الاقتصادي، إذا ما طُبّق بعدالة وإنصاف، وإذا ما حُمي المواطن البسيط من الوقوع ضحيةً لعجزه عن الفهم أو ضيق حاله، فهل نشهد قريبًا خطوات جادة تُعيد الثقة لهذا النظام، وتحوّله من عبء إلى فرصة حقيقية كما وُعد في البداية.