تحقيق ـ بسملة الجمل
حين زفت البشرى إلى الأب بأن زوجته أنجبت بنتًا، لم يسأل عن صحتها، ولم يهنئ نفسه بالسلامة، بل اكتفى بجملة واحدة: “كنّا محتاجين ولد يشيل الاسم!”، ورغم مرور الزمن، وتغير شكل البيوت والمدن، ما زالت بعض العقول حبيسة فكرة أن الذكر وحده هو “السند”، وأن الأنثى “زائرة مؤقتة” سرعان ما ترحل إلى بيت زوجها.
تولد البنت في كثير من البيوت وهي تحمل على كتفيها حزنًا لا يخصها، ومقارنة لا تنتهي، ونظرات تنتظر منها ما لم يطلب من أخيها الذكر، وترتفع الزغاريد لميلاد الذكر، وتخفض الأصوات حين تكون المولودة أنثى، فهل ما زال تفضيل الذكور على الإناث حيًّا في وجدان الناس، وهل تتحمل الفتاة وحدها تكلفة هذا التمييز، أم أن الجميع يدفع الثمن بشكل أو بآخر.
يولد التمييز قبل أن تنطق الطفلة بكلمة “بابا”
التفضيل لا يقال صراحة دائمًا، لكنه يتسرب في التفاصيل الصغيرة، في فرحة استقبال المولود، في صور الاحتفال، في عدد الهدايا، في طريقة النداء، وحتى في نوع الأحلام التي تنسج لكل منهما، ويقال للبنت “هتتجوزي وتروحي بيت جوزك”، ويقال للولد “أنت اللي هتشيل اسم العيلة”.
كذلك تربى الفتاة على الحذر والخوف، بينما يربى الذكر على القيادة والسيطرة، ومع كل هذا، تطالب الفتاة أن تكون قوية، مطيعة، ناجحة، صبورة، ولا تخطئ لأنها “بنت”، هذا التمييز لا يخلق ضحايا فقط، بل يصنع جروحًا خفية في الطرفين، تؤثر في علاقاتهم بأنفسهم وبمن حولهم، وتبقى لسنوات.
التمييز ليس في النوع بل في التنشئة
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكدت “سلمى هاني” أنه لا توجد أفضلية حقيقية بين الذكر والأنثى، مشيرة إلى أن الفارق يكمن في طريقة التربية، لا في النوع نفسه، كما رأت أن شخصية الطفل وسلوكه هما العاملان الحاسمان في تحديد قيمته ودوره، وليس كونه ولدًا أو بنتًا.
وأشارت “أمنية السيد” إلى أن المجتمع لا يزال يفرق في نظرته بين من لديه أولاد ومن لديه بنات فقط، دون مبرر واضح، رغم أن الفتيات كثيرًا ما يثبتن أنهن قادرات على تحقيق ما قد يعجز عنه البعض من الذكور، قائلة: “لدينا فتيات طبيبات وعالمات ومتفوقات في مجالاتهن”، كما ربطت أن تفضيل الذكور قد يكون مرتبطًا بالميراث.
ويعتقد البعض أن عدم إنجاب الذكر قد يفتح الباب لمشاركة الإخوة في الميراث، موضحة أن فكرة “الولد هو السند” ليست دقيقة دائمًا، فقد يسافر ويبتعد، أو لا يكون بارًا بوالديه، بينما قد تتزوج الفتاة من رجل يحترم أهلها ويكرمهم، مضيفة “مؤخرًا رأيت أزواجًا يصطحبون حمواتهم لأداء العمرة كما لو كانت والداتهم، رغم أن لديهن أبناء ذكور، لكن كل منهم منشغل بحياته”.
وأوضحت “إسراء محمد” أنها لا ترى أي أهمية لتفضيل الذكر على الأنثى، مؤكدة أن إنجاب ولد بعد بنتين ليس ضروريًا أو فارقًا من وجهة نظرها، مضيفة أن الأبناء جميعهم نعمة من الله، سواء كانوا بنات أو أولاد، مشيرة إلى أن المجتمع يجب أن يتجاوز فكرة السعي وراء “خلفة الولد”، كأنها إنجاز خاص، مشددة على ضرورة ترسيخ ثقافة المساواة بين الأبناء داخل الأسرة، بالإضافة إلى عدم الحكم على قيمة الإنسان بناءً على نوعه، بل على شخصيته وأفعاله.
وأكدت “آلاء محمود” أن فكرة الاعتماد على الأبناء في الكبر، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، لم تعد واقعية في ظل متغيرات الحياة الحديثة، موضحة أن “السند الحقيقي هو الله”، مشيرة إلى أن كل ابن أو ابنة سيصبح لديه حياته الخاصة ومسؤولياته التي ستشغله عن والديه، كما يحدث الآن في أغلب الأسر، كما أضافت أن الزيارات قد تقتصر على مرة أسبوعيًا أو حتى أقل، مؤكدة أن الرهان على “خلفة الولد” باعتباره ضمانًا للمستقبل لم يعد منصفًا أو دقيقًا.
وأشارت “ريم محمد” إلى أن سبب فرحة البعض عند معرفة أن المولود ذكر يعود إلى معتقدات قديمة ما زالت راسخة في أذهان كثيرين، إذ ينظر إلى الولد باعتباره “السند” الحقيقي لأهله، وأنه من سيتحمل مسؤولياتهم ويعمل على إعالتهم عند الكبر، مضيفة أن النظرة للبنت لا تزال محكومة بفكرة أنها ستتزوج وتنتقل إلى بيت زوجها، وربما تنشغل بأسرتها الجديدة وتنسى أهلها، حتى وإن كانت تعمل وتحقق دخلًا خاصًا بها، فإن هذا الدخل يوجه في اعتقادهم لبيتها فقط.
وأوضحت “نورهان علاء” أنها تعرضت لمواقف شخصية جعلتها تشعر بوضوح بأن المجتمع لا يرحب كثيرًا بوجود البنات، ولا يمنحهن نفس الفرص أو الدعم، وروت موقفًا حين قرر والدها إلحاقها بجامعة خاصة، فانهالت عليه التعليقات من المحيطين به تتساءل باستغراب: “ليه تعمل كده لحد غيرك؟! هي كده كده لما تشتغل مش هتفيدك بشيء”.
كذلك ذكرت “نورهان” موقفًا آخر حين كان والدها يعلمها القيادة، فتعرض لتعليق ساخر من أحد المارة قال فيه: “بتعلمها ليه؟ علم الولد أحسن، هو اللي هتنفعه السواقة!”، وهي كلمات عكست في رأيها كم التمييز المتوارث ضد الفتيات في تفاصيل الحياة اليومية.
وأكد “هاني أحمد” أن الفتاة لا يمكن أن تقلل من قيمة الرجل أو العائلة، بل على العكس، قد تكون مصدر فخر واعتزاز كبير، ورأى أن من يعتبر البنت “نقمة” أو “نقص” هو شخص لم يفهم بعد قيمة التربية أو عمق العلاقات الإنسانية، كما اعتبر أن نجاح البنت، واحترامها لنفسها ولأهلها، بيكبر بيها العيلة قدام الناس، وبيخلي الكل يشاور عليها ويقول: “ربنا رزقكم ببنت تطمن لها القلب”.
جذور نفسية واجتماعية لتفضيل الذكور
أكد الدكتور محمد الوصيفي استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان بجامعة المنصورة، أن تفضيل إنجاب الذكور على الإناث لا ينبع من فراغ، بل له جذور نفسية واجتماعية راسخة، موضحًا أن الكثير من الآباء يرون في الذكر امتدادًا حقيقيًا لاسم العائلة وكرامتها، وكأن وجوده يثبت وجودهم في الحياة، كما أشار إلى أن هذه الأفكار تغذت عبر قرون من الثقافة الذكورية، التي منحت الذكر امتيازات اقتصادية واجتماعية، ما جعل مكانته داخل الأسرة أكثر رسوخًا من الأنثى.

الدكتور محمد الوصيفي دكتور الطب النفسي
وأوضح “الوصيفي” أن المجتمع يلعب دورًا كبيرًا في ترسيخ هذه الفكرة داخل عقول الناس، منذ الطفولة الأولى، فالمجتمع يربط الذكر بالقوة والطموح والمستقبل، بينما يحصر الأنثى في أدوار تقليدية ومحدودة، مثل الرعاية والخدمة، وتابع أن هذه البرمجة النفسية تبدأ مبكرًا في حياة الإنسان، وتؤثر على تصوراته عن نفسه وعن الآخرين، بل وتنعكس على اختياراته الحياتية أيضًا.
وأشار الدكتور محمد الوصيفي إلى أن الفتاة التي تعيش في منزل يفضل فيه الذكور، تشعر بأنها غير مرغوب فيها أو أنها “أقل” من غيرها، هذا الشعور ينتج جرحًا نفسيًا يصعب التعافي منه، وقد يدفع الفتاة للانسحاب من الحياة الاجتماعية أو حتى محاولة التمرد على أنوثتها، مضيفًا أن بعض الفتيات يلجأن إلى تقليد الذكور سلوكًا ولبسًا بحثًا عن القبول أو التقدير المفقود.
كذلك أكد “الوصيفي” أن الذكور أنفسهم ليسوا بعيدين عن الأذى النفسي في هذه المعادلة، فالطفل الذكر الذي يعامل على أنه “الأفضل” يحمل بتوقعات غير واقعية، وقد ينشأ بشخصية نرجسية أو يعاني من صعوبة في التعاطف أو الفشل، موضحًا أن بعض هؤلاء الذكور يصابون بانهيارات نفسية لاحقًا، حين يدركون أن “تميزهم” كان وهمًا اجتماعيًا وليس استحقاقًا حقيقيًا.
وأوضح الدكتور محمد الوصيفي أن التفرقة بين الأبناء تخلف آثارًا نفسية طويلة الأمد، قد تؤدي إلى تصدع العلاقات داخل الأسرة، مؤكدًا أن هذا النوع من التمييز لا ينسى بسهولة، بل يبقى محفورًا في الذاكرة، ويظهر لاحقًا في شكل صراع خفي، أو قطيعة، أو برود عاطفي واضح بين الأخوة، أو حتى مع الوالدين أنفسهم.
الضغط على الزوجة من أجل “الولد”
وأشار “الوصيفي” إلى أن كثيرًا من النساء يتعرضن لضغط نفسي كبير من الزوج أو الأسرة بسبب إنجاب الإناث فقط، مؤكدًا أن هذا الضغط يولد شعورًا بالذنب وعدم الكفاية، وقد يؤدي إلى مشكلات نفسية مثل القلق، أو الاكتئاب، أو تدهور العلاقة الزوجية، كما أضاف أن بعض النساء يعشن في قلق دائم من الطلاق أو الزواج بأخرى فقط لأنهن لم “ينجبن ولدًا”، رغم أن جنس الجنين لا دخل لهن به.
كما أكد الدكتور محمد الوصيفي أنه عالج حالات لنساء أصبن بالاكتئاب بعد الولادة، لمجرد أنهن أنجبن أنثى، موضحًا أن الشعور بالخذلان وعدم القبول، خاصةً في المجتمعات التي تعتبر الذكر “الكنز”، قد يدفع الأم إلى النفور من ابنتها أو من نفسها، ما يؤثر على العلاقة بينهما على المدى الطويل، بل وقد يؤدي إلى اضطرابات أعمق في الصحة النفسية للأم والطفل معًا.
وأوضح “الوصيفي” أن هناك تحولًا تدريجيًا في وعي بعض الأسر، خاصةً في المدن والمجتمعات المتعلمة، ولكن التغيير ما زال بطيئًا وغير شامل، مؤكدًا أن التخلص من هذه المعتقدات يحتاج إلى تدخلات حقيقية من الإعلام، والتعليم، والمؤسسات الدينية، إلى جانب تقديم نماذج ناجحة لنساء فاعلات في المجتمع، تكسر الصور النمطية السلبية عن الأنوثة.
وأشار الدكتور محمد الوصيفي إلى أن تعديل هذه المعتقدات لا يتم بالعنف أو الإدانة، بل من خلال العمل النفسي العميق والتدريب المعرفي، مؤكدًا أن العلاج السلوكي المعرفي يمكن أن يساعد في كسر نمط التفكير التقليدي، إلى جانب جلسات التوعية الأسرية والمجتمعية، وتقديم محتوى إعلامي يعيد تعريف دور المرأة بشكل أكثر احترامًا وواقعية.
كذلك أكد “الوصيفي” أن الفتاة التي تنشأ في بيئة لا تقدرها بشكل كافي، غالبًا ما تصاب باضطرابات في الثقة بالنفس، موضحًا أن بعض هؤلاء الفتيات يلجأن إلى إثبات الذات بشكل مبالغ فيه، إما من خلال الكمالية، أو العلاقات السامة، أو حتى الابتعاد عن الأسرة تمامًا، بحثًا عن هوية جديدة تعوّض ما افتقدنه في طفولتهن.
التمييز بين الأبناء كإيذاء نفسي
وأوضح الدكتور محمد الوصيفي أن التفضيل بين الأبناء لا يقل خطورة عن الإيذاء الجسدي، بل إنه إيذاء نفسي قد لا يرى، لكنه يترك أثرًا أعمق، مؤكدًا أن هذا النوع من الإهمال العاطفي يؤدي إلى أمراض نفسية مزمنة مثل القلق، والاكتئاب، وأحيانًا إيذاء النفس، خاصةً في مراحل المراهقة، مضيفًا أن العلاج يبدأ حين تعترف الأسرة بالمشكلة، وتبدأ في تغيير سلوكها تجاه أبنائها.
كما أشار الدكتور محمد الوصيفي إلى أن الفتيات أو الأبناء الذين لم يحظوا بالتقدير الكافي يكبرون وهم يحملون جرحًا داخليًا، مؤكدًا أنهم غالبًا ما يمرون بفترات من الانكسار الداخلي، والبحث عن القبول خارج الأسرة، وربما يدخلون علاقات غير صحية بدافع الحاجة للحب والاعتراف.
وأكد “الوصيفي” أن إصلاح الخطأ ممكن، لكنه يتطلب شجاعة وصدقًا من الأسرة، خاصة الوالدين، موضحًا أن البداية تكون بالاعتراف بالمشكلة، والاعتذار إن لزم، وإظهار التقدير الصادق لجميع الأبناء، دون تفرقة أو تمييز، كما دعا إلى الاستعانة بمختصين نفسيين إذا لزم الأمر، من أجل إعادة بناء روابط صحية داخل الأسرة.
ليست الأنثى نقمة، ولا الذكر منحة مطلقة، من نحبه ونرعاه ويشعر بالأمان بيننا، هو من سيبقى، مهما كان جنسه، السنوات تعلمنا أن البنت التي تجاهلها والدها في طفولتها قد تكون هي من يحمل عنه ضعفه حين يكبر، وأن الولد الذي علقت عليه كل الآمال قد يخذل حين يأتي الدور.
ليست المشكلة في البنت ولا في الولد، بل في العيون التي تفرق، وفي القلوب التي لا تعدل، وفي المعتقدات التي تزرع منذ الميلاد، وربما آن الأوان لنكفي عن سؤال “ولد أم بنت؟”، ونسأل بدلًا منه “هل أحببناه كما ينبغي، وهل أنصفناه حين جاء إلى الحياة”.