تحقيق – بسملة الجمل
انقلبت موازين الفرح حين تحولت لحظة الانفصال إلى مناسبة احتفال، فأصبح الطلاق الذي كان يروى بالدموع يروى الآن بالموسيقى والزهور، وصارت دموع الندم تستبدل بضحكات الأصدقاء وعدسات الكاميرات.
وانتشرت صور التورتة التي تحمل عبارات مثل “إلى الحرية” و”انتهى الكابوس”، و”مبروك الطلاق” على مواقع التواصل الاجتماعي، لتثير جدلًا واسعًا بين مؤيد يرى فيها ميلادًا جديدًا يليق بالمرأة التي خرجت من تجربة مؤلمة، ورافض يعتبرها استهزاء بميثاق الزواج، وتحويلًا لمأساة أسرية إلى عرض استعراضي.
وأدهشت هذه الحفلات المجتمع المصري الذي اعتاد على طقوس الزفاف أكثر من طقوس الانفصال، لتفتح أبوابًا من التساؤلات حول الدوافع النفسية، والآثار الاجتماعية، والانعكاسات الدينية لمثل هذا السلوك غير المألوف، خاصة أن بعض النساء أصبحن يتسابقن في اختيار قاعات فاخرة، وملابس براقة كما لو كان يوم عرس.
وكسرت هذه الظاهرة حواجز الصمت حول مفهوم الطلاق، فلم يعد مجرد ورقة قانونية توثق نهاية زواج، بل تحول إلى حدث اجتماعي يتصدر العناوين، ويشعل النقاشات بين من يراها حقًا مشروعًا للتعبير عن الذات، ومن يصفها بالظاهرة الدخيلة على قيم المجتمع.
وكشفت شهادات بعض السيدات أن الحفل بالنسبة لهن ليس مجرد موسيقى وزينة، بل محاولة لتضميد الجراح، ورسالة إلى المجتمع أن النهاية قد تحمل بداية أكثر قوة، بينما يرى آخرون أن هذه الاحتفالات لا تزيد إلا من حدة الانفصال وتعمّق الكراهية بين الأزواج السابقين.
كذلك أربكت هذه الحفلات موازين الفكر بين علماء النفس ورجال الدين وأفراد المجتمع، لتطرح سؤالًا صريحًا وصادمًا: هل نحتفل فعلًا بالحرية وبداية جديدة، أم نضحك على خراب البيوت ونزيف القيم الأسرية.
وبالحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكدت “سلمى هاني” أن ظاهرة حفلات الطلاق غريبة على المجتمع المصري، مشيرة إلى أنها لا ترى أي مبرر للاحتفال بانفصال بين زوجين كان من المفترض أن تجمعهما المودة والرحمة، واعتبرت أن مثل هذه المظاهر لا تعكس بداية جديدة بقدر ما تُظهر نوعًا من الاستعراض أمام الآخرين.
كما أوضحت أن الطلاق في حد ذاته تجربة مؤلمة تحتاج إلى دعم نفسي وأسري لتجاوزها، لا إلى حفل قد يزيد من مشاعر العداء بين الطرفين، مضيفة أن المجتمع في حاجة إلى نشر ثقافة الوعي بالزواج الناجح، بدلًا من الترويج لاحتفالات الانفصال.
وأشارت “هاجر أحمد” إلى أن شعورها الأول عند سماعها عن حفلات الطلاق كان مزيجًا من الدهشة والاستغراب، موضحة أنها لم تتوقع أن يتحول الطلاق، الذي ينظر إليه عادة كحدث مؤلم، إلى مناسبة احتفالية، واعتبرت أن الفكرة في بدايتها بدت صادمة وغير مألوفة بالنسبة لها.
موضحة أن مع مرور الوقت بدأت تتفهم أن بعض السيدات قد يلجأن إلى هذه الحفلات كنوع من التعبير عن التحرر، وبداية حياة جديدة، لكنها ما زالت ترى أن التعبير عن ذلك يمكن أن يتم بطرق أكثر هدوءًا، بعيدًا عن الأضواء والجدل الاجتماعي.
وأوضح “أحمد السيد” أن الاحتفال بالطلاق قد يعد حرية شخصية لصاحبه طالما لم يتجاوز حدود الأدب ولم يفرض سلوكه على الآخرين، مشيرًا إلى أن كل إنسان له الحق في التعبير عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة بعد تجربة صعبة كالانفصال، ولفت إلى أن البعض قد يجد في هذه الحفلات وسيلة نفسية للتخلص من الضغوط والبدء من جديد.
كذلك أكد في الوقت نفسه أن المبالغة في إقامة مثل هذه الحفلات قد تتحول إلى استفزاز للمجتمع، خاصة إذا صاحبها مظاهر استعراض أو سخرية من الزواج ذاته، موضحًا أن الحرية ينبغي أن تكون منضبطة بالقيم، والأعراف حتى لا تفقد معناها، وتنعكس سلبيًا على صورة الأسرة.
وأكدت “ياسمين السيد” أنها سترفض تلبية دعوة لحضور حفل طلاق، موضحة أن الطلاق في نظرها حدث مؤلم لا يستحق الاحتفال، بل يحتاج إلى وقت من الهدوء والمراجعة الداخلية، كما أشارت إلى أنها ترى مثل هذه الحفلات نوعًا من المبالغة التي لا تتناسب مع قيمة العلاقة الزوجية التي انتهت.
مضيف أن حضورها لمثل هذا النوع من المناسبات سيجعلها تشعر بالتناقض، فهي لا تستطيع أن تفرح على خراب بيت، مهما كانت المبررات، معتبرة أن الدعم النفسي والمعنوي للأصدقاء أفضل بكثير من مشاركة في حفل مثير للجدل.
وأشار “عمر سامح” إلى أن حفلات الطلاق بالفعل تقلل من قيمة الزواج والميثاق الشرعي بين الزوجين، موضحًا أن الزواج في أساسه علاقة قائمة على المودة والرحمة، ولا يجوز أن يختزل في حفل يظهر الانفصال وكأنه مناسبة للفرح، معتبرًا أن مثل هذه السلوكيات تضعف من قدسية الزواج، وتحوله إلى مجرد حدث اجتماعي عابر.
كذلك أوضح أن الطلاق قد يكون حلًّا ضروريًا في بعض الحالات، لكن تحويله إلى احتفال يفقده جديته، ويشوّه صورته أمام الأجيال الجديدة، لافتًا إلى أن المجتمع بحاجة إلى تعزيز قيم الأسرة، لا إلى ممارسات قد تدفع الناس للتعامل مع الزواج بخفة، وعدم مسؤولية.
وأوضح “صلاح إبراهيم” أن انتشار ظاهرة حفلات الطلاق سينعكس سلبًا على نظرة المجتمع إلى مؤسسة الأسرة، حيث قد يفقدها جزءًا من هيبتها واحترامها، معتبرًا أن تحويل الانفصال إلى مناسبة احتفالية يرسخ فكرة أن الزواج لم يعد ميثاقًا جادًا ومسؤولية مشتركة، بل تجربة يمكن إنهاؤها بسهولة والاحتفال بانتهائها بلا مبالاة.
مضيفًا أن هذا الانعكاس قد يؤثر خصوصًا على الشباب المقبلين على الزواج، فيجعلهم أقل التزامًا وأكثر ترددًا في خوض تجربة تكوين أسرة، كذلك أشار إلى أن الحفاظ على صورة مؤسسة الزواج واجب اجتماعي، وأن أي سلوكيات قد تضعف هذه الصورة تعد خطرًا على استقرار المجتمع بأكمله.
وأكدت “دينا أحمد” أن إقامة حفل طلاق قد يساعد بعض الأشخاص على تجاوز الصدمة النفسية، لأنه يمنحهم فرصة للتعبير عن مشاعر التحرر وبداية صفحة جديدة في حياتهم، موضحة أن البعض يجد في هذه الحفلات دعمًا من الأصدقاء والأهل، وهو ما يخفف من حدة الشعور بالخذلان أو الفشل بعد تجربة الانفصال.
كذلك أشارت في الوقت نفسه إلى أن الأمر قد يتحول في بعض الحالات إلى مجرد استعراض أمام المجتمع، خاصة إذا صاحبه مبالغة في المظاهر والإنفاق، معتبرة أن تجاوز الصدمة لا يعتمد بالضرورة على الاحتفالات، بل على الدعم النفسي الحقيقي والقدرة على تقبل التجربة والتعلم منها.
وأشار “أيمن محمد” إلى أن حفلات الطلاق قد تعطي انطباعًا ببداية جديدة، لكنها في نظره غالبًا ما تعكس رغبة في لفت الأنظار أكثر من كونها خطوة حقيقية نحو التغيير، مؤكدًا أن البداية الحقيقية لا تأتي من الأضواء والاحتفالات، بل من التصالح مع النفس وإعادة بناء الثقة بعد تجربة الانفصال.
وأوضحت “دعاء محمد” أن تأثير حفلات الطلاق على الأبناء يكون سلبيًا في الغالب، لأن الطفل قد يشعر بالارتباك والحيرة حين يرى والديه يحتفلان بانفصالهما، بدلًا من أن يعيش في جو من التفاهم والهدوء، مشيرة إلى أن مثل هذه المشاهد قد تترك أثرًا نفسيًا عميقًا، وتزرع داخله صورة مشوشة عن معنى الأسرة والاستقرار.
وأكد “محمد علي” أن حفلات الطلاق تمثل “خراب بيوت على المكشوف”، موضحًا أن الزواج ميثاق مقدس لا يليق تحويل نهايته إلى احتفال، كما اعتبر أن ما يراه البعض حرية شخصية قد يسيء للأسرة ويجعل الطلاق حدثًا عاديًا بلا قيمة، مشيرًا إلى أن احترام الانفصال بصمت وبهدوء، أفضل من جعله مادة للهو والجدل.
حفلات الطلاق بين صرخة حرية وأزمة نفسية صامتة
كشف الدكتور محمد الوصيفي دكتور الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب بجامعة المنصورة، أن الدوافع النفسية وراء إقامة حفلات الطلاق غالبًا ما ترتبط بالرغبة في إعلان التحرر من علاقة سببت ألمًا طويلًا، أو محاولة لاستعادة السيطرة على الحياة بعد فترة من الضغوط والصراعات.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
وأوضح الدكتور محمد الوصيفي أن هذه الحفلات قد تعد وسيلة للتنفيس والتعبير عن الحرية، لكنها في الوقت نفسه قد تحمل جانبًا من إنكار الواقع، حيث يحاول الفرد إخفاء مشاعره الحقيقية خلف أجواء من البهجة المصطنعة.
وأكد الدكتور النفسي أن الاحتفال بالطلاق قد يساهم مؤقتًا في تخفيف الصدمة النفسية، لكنه لا يعالج جذور المشكلة، فالمشاعر العميقة مثل الخيانة أو الخذلان تحتاج إلى وقت، بالإضافة إلى دعم نفسي حقيقي للتعافي.
وبين “الوصيفي” أن تأثير حفلات الطلاق على الصحة النفسية للمطلق أو المطلقة يختلف باختلاف الشخصية؛ فالبعض يشعر بانطلاقة جديدة، بينما قد يتعرض آخرون لانتكاسة لاحقة عند انقضاء نشوة الاحتفال.
كما أشار الدكتور محمد الوصيفي إلى أن هذه الحفلات قد تخفف بالفعل من مشاعر الألم لدى أحد الطرفين، لكنها في أحيان كثيرة تعمق الإحساس بالعداء، خصوصًا إذا اعتبرت استفزازًا للطرف الآخر.
كذلك حذر الدكتور النفسي من أن انتشار الظاهرة قد يشجع بعض الأزواج على اتخاذ قرار الطلاق بسرعة أكبر، إذ تصور لهم الفكرة وكأنها بداية مشرقة، في حين أن الواقع قد يكون أكثر تعقيدًا وصعوبة.
كما شدد “الوصيفي” على أن الانعكاسات النفسية على الأطفال خطيرة إذا شاهدوا والديهم يحتفلون بالانفصال، لأن ذلك يربك تصورهم عن معنى الأسرة، وقد يزرع فيهم شعورًا بعدم الأمان.
ونصح الدكتور محمد الوصيفي بشرح فكرة الحفل للأطفال بلغة مبسطة، تركز على أن الانفصال لا يعني انتهاء الحب والاهتمام بهم، مع التأكيد على أن العلاقة الأبوية ستظل ثابتة، رغم كل التغيرات.
كذلك توقع الدكتور النفسي أن تتحول هذه الحفلات إلى عادة اجتماعية إذا لاقت قبولًا واسعًا، لكن ذلك سيكون مؤشرًا على تغير جذري في منظومة القيم، وقد يفتح بابًا لجدل أخلاقي وديني طويل.
ورأى “الوصيفي” أن الظاهرة تعكس بالفعل تغيرًا في نظرة المجتمع إلى مؤسسة الزواج والطلاق، حيث انتقل الحديث من كونه مأساة إلى كونه حدثًا قابلًا للاحتفال، وهو ما يستدعي دراسة أعمق لفهم التحولات الثقافية، والنفسية وراء ذلك.
حين يتحول الفقد إلى مهرجان وتبقى الحقيقة خلف الستار
تبقى حفلات الطلاق مرآة لقصص إنسانية تحمل بين طياتها وجعًا ورغبة في حياة أكثر هدوءًا، فهناك من يراها بداية جديدة تمنح فيها النفس فرصة للسلام، وهناك من يعتبرها مجرد ستار يخفي خلفه جروحًا لم تلتئم بعد، لتظل المشاعر متأرجحة بين فرحة الحرية ومرارة الفقد.
ويظل السؤال حاضرًا هل صارت قدسية الزواج مجرد ذكرى في زمن تتبدل فيه القيم بسرعة، أم أن هذه الحفلات مجرد موجة عابرة سرعان ما تنطفئ، بين الحزن والاحتفال، وبين الحرية والالتزام، يبقى الطلاق فصلًا مؤلمًا، مهما اختلفت طرق روايته.