تحقيق – روفيدا يوسف
شهدت الفترات الأخيرة تصاعدًا ملوحظًا في ظاهرة تحويل الأطفال إلى أدوات شهرة ومكسب، عبر منصات التواصل الاجتماعي، يبدأ المشهد عادةً بلقطة عفوية لطفل، يتصرف بطريقة طريفة وعفوية؛ ولكن مع سرعة انتشار الفيديو وتحقيقه آلاف الإعجابات والمشاركات، يتحول اهتمام الطفل إلى مشروع منظم تتسبب فيه الأسرة، ويصبح الطفل صانع محتوى، لا تتم مراعاة احتياجاته النفسية ولا خصوصيته.
ومع دخول الطفل دائرة الشهرة العالية، تبدأ في التوسع وتشمل متابعين وتعليقات، ولايفات وحفلات ومهرجانات؛ بل وأحيانًا تتحول إلى عقود وإعلانات، يبدو هذا في نظر الطفل نجاحًا، ولكنهم لا يعلمون أنهم يتحملون أعباء لا تناسب أعمارهم، فيخضعون إلى مقارنات ونقد، مما يترك آثارًا نفسية طويلة المدى عليهم، وقد لا تظهر إلا في مرحلة متأخرة.
من الفيديو العفوي إلى صناعة المحتوى بقصد التريند والشهرة
يبدأ المشهد البسيط بدافع اللطافة، ولكن سرعان ما يتحول إلى منظومة ضغط على الأسرة والطفل، فالمشاهدات والإعجابات المتزايدة تجعل الأهل تشعر بضرورة الاستمرار في صناعة الفيديوهات، حتى لو كان على حساب راحة الطفل أو عفويته، فيدفع إلى التمثيل والتصنع ويقوم بتكرار المحتوى، وذلك دون وعي منه هو فقط بسبب الضجة المحيطة به.
يدخل الأطفال عالم الشهرة الذي لا يناسب مرحلته العمرية، فيبدأ بالتصوير الاحترافي، والمونتاج، والبث المباشر، ولقاءات إعلامية، وتعاقدات مع البراندات وغيرها، بالإضافة إلى الرعاية التجارية، وأحيانًا يقوم بتقديم محتوى غير لائق ويضمن سلوكيات أو لغة غير مناسبهم لهم، لكنها تستمر لأنها “تحقق المزيد من المشاهدات”، من هنا يبدأ نزع مفهوم الطفولة، ويتحول الطفل إلى “منتج” يُدار.
رأي الطب النفسي في تأثير الشهرة واللايفات على الحالة النفسية للأطفال
يؤكد الدكتور جمال فراويز استشاري الطب النفسي، أن تأثير الشهرة واللايفات على الأطفال يختلف وفقًا لحجم التأثير الواقع عليهم، ومدى الفقدان الذي يشعر به الطفل بعد انتهاء موجة التريند، فاليوم قد يكون الطفل في ذروة الشهرة والاهتمام، والناس كلها تشير إليه وتتابعه، ثم تتراجع الأضواء تدريجيًا، مما قد يؤدي إلى دخول الطفل في حالة اكتئاب وانطواء شديد.
ويوضح “فراويز” أن بعض الأطفال حين يتعرضون لشهرة واسعة، قد يبدؤون بالشعور بالضيق من الناس والتصوير المستمر والحديث عنهم، ثم مع مرور الوقت يبدأون في البحث عن هذا الاهتمام المفقود، وحين لا يجد الطفل من يعرفه أو يهتم به كما كان يحدث من قبل، قد يدخل في حالة اكتئاب، نتيجة الفجوة الكبيرة بين وضعه السابق واللاحق.

الطبيب النفسي جمال فراويز
اختلاف الاستجابات النفسية من طفل لآخر مع طبيعية الشهرة
ويستكمل استشاري الطب النفسي حديثه، بأنه هناك طفل آخر يتعامل مع الشهرة بصورة طبيعية، ويعتبرها جزءًا من أسلوب حياته، فيتعايش معها دون اضطرابات، ويمضي بشكل طبيعي بعد انتهاء الأضواء، بينما قد يعاني طفل ثالث من توتر شديد مع اختفاء الإعلام عنه، وقد يصل الأمر إلى الاكتئاب، بل وقد يؤذي نفسه إذا كان لديه جين وراثي للمرض النفسي.
فراويز: التغيير الإعلامي يصنع واقعًا نفسيًا مختلفًا للأطفال
يشيد الدكتور جمال فراويز أن هذا التأثير يختلف حسب شدة الحدث، ومدته، وما إذا كانت الأضواء قد استمرت أو ابتعدت، فهذه العوامل كلها تترك آثارًا سلبية أو إيجابية على الطفل، فهناك من يدرك أن هذه الفترة كانت مؤقتة ويستطيع استكمال طفولته بصورة طبيعية، وهناك من لا يتأثر بابتعاد الصحافة والإعلام، بينما يعجز آخرون عن التكيف مع هذا التغيير.
في ظل انتشار ظاهرة استغلال الأطفال في المحتوى الرقمي، أصبح من الضروري إعادة تقييم الدور الذي تلعبه الأسرة والمنصات في حماية الصغار من ضغوط الشهرة، الغير ملائمة لأعمارهم، فامتلاك الطفل للحياة الرقمية لا يجب أن يكون على حساب طفولته الحقيقة.
فلا ينبغي تحويل مشاهد عفوية إلى التزام دائم يثقل كاهل الأطفال نفسيًا، فمعالجة هذه الظاهرة تستلزم وعيًا مجتمعيًا، يعيد النظر في في إعادة القيم التربوية، ويضع مصلحة الطفل فوق أي مكسب مادي، أو انتشار لحظي.
فبين طفل قد يتجاوز التجربة، وآخر يبقى عالقًا تحت ثقلها، يظل الوعي هو السلاح الأقوى والأهم؛ لضمان أن يظل الطفل طفلًا، بعيدًا عن ضوء الشهرة المرهق، وقريب من برائته التي يجب أن تصان.





