تحقيق – نسمة هاني
في الفترة الأخيرة شهد المجتمع المصري طفرة واضحة في حضور النساء داخل سوق العمل، فلم يعد النجاح حكرًا على الرجال، بل ظهرت نماذج نسائية استطاعت أن تنافس وتتفوق في مجالات كان يُنظر إليها قديمًا على أنها “عالم الرجال”، هذا التحول جعل كثير من السيدات العاملات يشعرن بالفخر بما حققنه، لكن في المقابل، تحولت بعض قصص النجاح إلى مادة جدلية، خاصة حينما تستخدم النساء إنجازاتهن كوسيلة للرد على الانتقادات أو للتأكيد على أنهن سبقن الرجال في مجالات بعينها.
فبينما ترى بعض النساء أن ما يفعلنه مجرد رد طبيعي على محاولات التقليل من شأنهن، يرى رجال آخرون أن الأمر تجاوز المنافسة المشروعة ليصبح أداة للمعايرة والمفاخرة، وهو ما يثير تساؤلات حول العلاقة بين الطرفين: هل هي منافسة بنّاءة تدفع الجميع للتطور، أم صراع مكتوم يخرج أحيانًا في صورة “كلام جارح” متبادل.
آراء الرجال والنساء في الظاهرة
تقول منى: “كنت بسمع تعليقات من زمايلي الرجالة إني مش هعرف أوفق بين شغلي وبيتي، ولما أثبت العكس وبقيت مسؤولة عن مشاريع كبيرة، بقولهم دايمًا: “شوفوا مين اللي سابق التاني دلوقتي”.
وآضافت نوران السيد، المجتمع بيحاول يقنعنا إن النجاح للرجال أكتر، لكن لما بلاقيني نجحت في تخصص صعب، بقيت أواجه أي سخرية بإنجازاتي، وبقيت أقول لبعض الرجالة اللي بيستصغروا الست: أنا وصلت لمكانة إنت نفسك مش قادر توصلها”.
وتحكي آلاء محمد، أنا بعتبر إن نجاحي مش عشان أعاير حد، بس لما بلاقي استهزاء أو مقارنة، بقول بكل ثقة: “أنا اللي بصرف على نفسي ومش محتاجة لحد”.
ويوضح أحمد عيد، “إحنا مش ضد إن الست تشتغل وتنجح، بالعكس ممكن نفتخر بيها، لكن لما الموضوع يتحول لفكرة، أنا أحسن من الراجل، بيخلق نوع من العناد والخصومة”.
ويروي خالد السيد، “الرجالة نفسهم ساعات بيعايروا الست إنهم أشطر أو أقدر، فطبيعي الست لما تحقق نجاح، ترد بنفس الطريقة، هي مش حرب، هي رد فعل”.
ويختلف محمود كامل، “أنا شايف إن نجاح الست مش لازم يتحول لمعركة مع الرجالة، لأن الأصل إننا نكمل بعض الست لما تنجح، ده فخر لبيتها وجوزها وأهلها، مش تحدي ضدهم”.
وأشار يوسف ياسر، “بالعكس أنا بحب الست الشاطرة في شغلها، لكن ساعات في ستات بتحب تستفز الراجل بكلامها عن إنجازاتها، وده اللي بيخلي الرجالة يردوا بنفس الأسلوب”.
وهكذا يبقى الجدل قائمًا بين نساء يرين أن تفوقهن هو السلاح الوحيد في مواجهة مجتمع مليء بالانتقاص من قدراتهن، ورجال يعتبرون أن النجاح قيمة مشتركة لا يجب أن يُستغل في “معايرة” أو صراع لا طائل منه.
رأي علم اجتماع الدكتورة سامية خضر توضح
وأوضحت الدكتورة سامية خضر أستاذة علم الاجتماع، أن إحساس بعض النساء بالحاجة إلى إثبات تفوقهن على الرجال بعد تحقيق النجاح يرجع في الأساس إلى طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع المصري، التي ما زالت، رغم التغيرات تمنح الأفضلية للرجل وتضعه في موقع المسؤول الأول عن العمل والإنفاق والقرار، هذا التمييز يجعل المرأة عندما تصل إلى إنجاز أو مكانة اجتماعية، تشعر أن عليها أن تُثبت أنها كسرت تلك القاعدة، فتتحول بعض ردود أفعالها إلى صورة من صور التحدي أو المقارنة المباشرة مع الرجل.

الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الإجتماع
وترى أن الظاهرة في جوهرها انعكاس لثقافة مجتمعية قديمة ما زالت تميّز لصالح الرجل، وتجعل نجاح المرأة وكأنه “استثناء” يحتاج إلى التأكيد، ومن هنا يظهر الميل لدى بعض السيدات إلى استخدام إنجازاتهن كوسيلة للرد على الانتقاص الذي تعرضن له في مراحل سابقة من حياتهن، سواء داخل الأسرة أو في بيئة العمل.
وبيّنت أن نجاح المرأة في ذاته يُعد مصدر فخر طبيعي، لكنه قد يتحول إلى أداة للمعايرة أو الصراع حين يتم استدعاؤه في إطار “المكايدة” أو إثبات الأفضلية على الرجل. في هذه الحالة لا يصبح الإنجاز قيمة فردية خالصة، بل يدخل في دائرة الصراع الاجتماعي بين الجنسين، وهو ما قد يفرغ النجاح من معناه الإيجابي.
وأكدت أن الظاهرة لا تقتصر على طبقة اجتماعية بعينها، لكنها تبدو أوضح في الطبقات المتعلمة والنساء العاملات، لأنهن الأكثر احتكاكًا بالرجال في مواقع العمل والمنافسة المباشرة، أما في الطبقات الشعبية أو غير المتعلمة، فغالبًا ما تأخذ المسألة طابعًا آخر، يرتبط بالقدرة على الإنفاق أو المساهمة في مصروفات البيت، مما يفتح الباب أحيانًا لمشادات داخل الأسرة حول من “يتحمل العبء الأكبر”.
وأشارت الدكتورة سامية خضر إلى أن هذه الظاهرة قد تترك آثارًا سلبية على العلاقات الأسرية والزواجية، خاصة إذا شعر الزوج أن نجاح زوجته يُستخدم ضده كوسيلة لتقليل مكانته أو الانتقاص من دوره، فبدل أن يتحول الإنجاز إلى قيمة داعمة للأسرة، يصبح مصدر خلاف وتوتر.
وترى أن الحل يكمن في إيجاد توازن واضح، بحيث يُنظر إلى النجاح باعتباره قيمة فردية بالدرجة الأولى، لا أداة للمقارنة أو الضغط، فإذا تمكن الطرفان من تحويل الإنجاز إلى رصيد مشترك للأسرة والمجتمع، فسوف يظل النجاح مصدر اعتزاز بدلاً من أن يتحول إلى سلاح في معركة.
واختتمت مؤكدة أن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يسهمان في تضخيم هذه الظاهرة وإبرازها بشكل يفوق حجمها الحقيقي، من خلال التركيز على النماذج الصدامية أو المواقف المثيرة للجدل، بينما في الواقع، هناك نماذج كثيرة لنساء ناجحات لا يستخدمن إنجازاتهن في معايرة أحد، بل في خدمة أسرهن ومجتمعهن.
من كسر القيود إلى كسر الصور النمطية
تعود جذور هذه الظاهرة إلى طبيعة المجتمع المصري الذي ظل لعقود طويلة يرسّخ صورة الرجل باعتباره الطرف الأقوى، والمسؤول الأول عن العمل والإنفاق وإدارة شؤون الأسرة، أما المرأة فكان دورها محصورًا في البيت ورعاية الأبناء، ومع دخول النساء مجال العمل بقوة في السنوات الأخيرة، وتولي بعضهن مناصب مهمة، تغيّرت موازين القوى الاجتماعية، لم يعد النجاح والقدرة على الإنفاق حكرًا على الرجل، بل صارت المرأة شريكًا أساسيًا، وهذا ما جعل بعضهن يعتبرن نجاحهن كسرًا لصورة نمطية قديمة، فيرددن إنجازاتهن أحيانًا في شكل معايرة أو تحدٍ لإثبات أنهن لم يعدن أقل شأنًا من الرجل.
نجاح المرأة.. شراكة أم صراع داخل البيت
هذا التحول ترك أثرًا مباشرًا على شكل الأسرة والعلاقات الاجتماعية، ففي كثير من البيوت، أصبحت الزوجة هي من تساهم بجزء كبير من الدخل أو حتى تتحمل المسؤولية كاملة في بعض الحالات، الأمر الذي يخلق أحيانًا نوعًا من الحساسيات، فإذا كان الرجل يرى في قدرته على الإنفاق مصدر قوته ومكانته، فإن دخول المرأة على الخط بهذا الشكل قد يدفع بعض الرجال للشعور بأن مكانتهم تهتز، خصوصًا عندما يتحول الأمر إلى مقارنة أو معايرة، وعلى الجانب الآخر، هناك أسر استطاعت تحويل هذه المشاركة إلى عنصر قوة، حيث أصبح النجاح المشترك هو أساس استقرار العلاقة، بعيدًا عن صراع “من الأقوى” أو “من ينفق أكثر”.
رغم ما يثار من جدل، يظل الجانب الإيجابي لهذه الظاهرة حاضرًا بقوة، فالمرأة المستقلة ماديًا لا تشكّل عبئًا على أحد، بل قد تكون سندًا لأهلها أو لأسرتها الصغيرة، وهو ما يخلق نموذجًا ملهمًا للفتيات الصغيرات، هذه النماذج تؤكد أن النجاح ليس حكرًا على الرجال، وأن الاستقلال المادي والمعنوي للمرأة أصبح واقعًا لا يمكن إنكاره، وحتى إذا اتخذ بعض النساء من إنجازاتهن وسيلة للرد أو المعايرة، فإن الأساس في النهاية هو أنهن أثبتن أنفسهن في مجالات صعبة، وانتصرن على تحديات مجتمعية طالما حاولت إعاقتهن.
المجتمع بين لغة المعايرة ولغة التعاون
من المرجح أن يستمر هذا الجدل لبعض الوقت، خاصة في ظل ما يعيشه المجتمع من صراع بين العادات القديمة والتحولات الجديدة، لكن مع مرور الوقت وزيادة الوعي، قد يتغير المشهد لتصبح مشاركة المرأة في العمل والإنفاق أمرًا طبيعيًا لا يحتاج إلى إثبات أو مقارنة، فالمعادلة الصحيحة لن تقوم على فكرة “المرأة ضد الرجل”، بل على أساس أن نجاح أي فرد، سواء رجلًا أو امرأة، يصب في مصلحة الأسرة والمجتمع ككل وعندها، قد تختفي لغة المعايرة لتحل محلها لغة التعاون والتكامل.
وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 2024، بلغت نسبة النساء في قوة العمل المصرية حوالي 16.2% فقط، بينما تصل في بعض الدول العربية مثل الإمارات إلى 20.5%، وفي المغرب إلى 22.3%، أما على المستوى العالمي فالنسبة تتجاوز 47%، وعلى الرغم من هذا الفارق، إلا أن النساء في مصر حققن قفزات لافتة في قطاعات بعينها مثل التعليم والصحة والبنوك، حيث ارتفعت نسبة القيادات النسائية في البنوك المصرية إلى نحو 24%، وهو رقم غير مسبوق مقارنة بالسنوات الماضية.
داخل الأسرة.. شراكة اقتصادية أم منافسة خفية
في كثير من البيوت المصرية، أصبحت الزوجة شريكًا أساسيًا في دخل الأسرة، إذ تشير إحصاءات “التعبئة العامة والإحصاء” إلى أن حوالي 18% من الأسر المصرية تعولها سيدات بشكل كامل، وهو ما يغير قواعد اللعبة داخل البيت، فهناك أسر حولت الأمر إلى قوة مضاعفة، إذ يُنظر إلى نجاح الزوجة على أنه دعم للأسرة كلها، بينما في أسر أخرى يتحول الإنجاز إلى مصدر توتر، حين يُنظر إليه كتهديد لمكانة الرجل أو تفوقه، هذا التباين يوضح أن مشاركة المرأة ليست مجرد قضية اقتصادية، بل قضية ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى.
في النهاية، تظل مسألة “معايرة المرأة للرجل بإنجازاتها” جزءًا من جدل أوسع حول التحولات التي يشهدها المجتمع المصري، فنجاح المرأة اليوم لم يعد حدثًا استثنائيًا، بل حقيقة راسخة تتجلى في الاقتصاد والسياسة والحياة اليومية، وبينما قد تتحول بعض الإنجازات أحيانًا إلى أداة للتحدي أو المقارنة، يبقى الأمل أن تتجاوز هذه المرحلة لتصبح التجارب النسائية نموذجًا للتعاون والتكامل، لا للمكايدة أو الصراع، فالمعادلة الصحيحة ليست “من الأقوى”، بل “كيف ننجح معًا”، لأن المجتمع لا ينهض برجل وحده ولا بامرأة وحدها، وإنما بشراكة حقيقية تعطي لكل طرف مكانته وتقديره.