تحقيق – روفيدا يوسف
في ظل الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي أثقلت كاهل ملايين المصريين، تحاول الدولة البحث عن حلول مبتكرة لدعم الفئات غير القادرة، وهو ما تجلى مؤخرًا في إعلان وزارة التضامن الاجتماعي، عن نيتها لإحياء مفهوم “التكية الإسلامية”، ولكن بصيغة عصرية تتناسب مع متغيرات الزمن.
وبينما رحّب البعض بالفكرة باعتبارها خطوة إنسانية مهمة تعيد إحياء مبدأ التكافل المجتمعي، رأى آخرون أنها تكرّس لواقع مرير من العجز المعيشي والاعتماد على الإطعام بدل التمكين، ما أثار حالة من الجدل الواسع حول الهدف الحقيقي من المشروع، وما إذا كان استجابة للأزمة الاقتصادية، أم عودة لنهج ديني – اجتماعي نابع من التراث.
ما هي التكية.. ومن أين جاءت الفكرة؟
التكية في أصولها التاريخية كانت مؤسسة خيرية، ظهرت في العصر العثماني وتحديدًا في القرن 16 بالأناضول التابعة للدولة العثمانية، وارتبطت بمفهوم تقديم الرعاية الشاملة للفقراء وعابري السبيل.
وكانت هذه المؤسسات تُبنى بالقرب من المساجد أو الزوايا الصوفية، وتقدّم الطعام، والشراب، والمأوى لكل من يحتاج، دون مقابل أو اشتراط، ولم تكن مجرد أماكن لإطعام الجائعين، بل كانت أيضًا رموزًا للرحمة والتدين الشعبي، ووسيلة لضمان الحد الأدنى من الكرامة لكل إنسان.
وفي مصر ازدهرت التكايا خلال العهد العثماني، وكان أبرزها “تكية محمد علي” التي خُصصت لخدمة الحجاج والفقراء، وكان يتم الإنفاق عليها من أموال الأوقاف، وتشرف عليها الدولة أو النخب الدينية، لتكون نموذجًا متكاملًا للرعاية الاجتماعية، يقوم على الرحمة والعدالة وليس المِنّة.
التكية المصرية في بلاد الحرمين
كانت التكية المصرية في الحجاز أو كما كانت تُعرف بـ “المبرة المصرية”، واحدة من أبرز صور العطاء الخيري، التي قدمتها مصر للحجاج، والمعتمرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كانت هذه التكية تقوم بتجهيز وتوزيع الوجبات الغذائية على الفقراء والوافدين إلى الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
واستمرت التكية في أداء دورها الخيري لمدة 150 عامًا حتى هُدمت عام 1983، وترجع نشأة التكية إلى عام 1822 ميلاديًا، 1238 هجريًا، حينما أمر محمد علي باشا حاكم مصر، بإنشائها في مكة عقب دخول جيوشه إلى الأراضي الحجازية عام 1812.
وخلال حكم نجله إبراهيم باشا، تم إنشاء تكية مصرية ثانية في المدينة المنورة بمنطقة “المناخة”، كانت التكايا مزوّدة بمطابخ، وأفران، ومخازن، تتلقى بشكل دوري كميات كبيرة من القمح والأرز واللحوم، فضلًا عن رواتب العاملين بها، وقد تولت وزارة الأوقاف المصرية تمويل هذه المصاريف، ما يعكس اهتمام الدولة آنذاك بخدمة فقراء المسلمين والزائرين للحرمين.
التكية في ثوب جديد.. مبادرة حديثة بطابع تراثي
في يوليو 2025 أعلنت وزيرة التضامن الاجتماعي، الدكتورة مايا مرسي، أن الوزارة تدرس تنفيذ مشروع جديد مستوحى من نموذج التكية الإسلامية، يهدف إلى تقديم وجبات غذائية يومية ومجانية للمواطنين غير القادرين، وذلك بشكل مستدام طوال العام، وليس فقط في شهر رمضان.
وجاء ذلك بالتعاون مع مئات الجمعيات الأهلية والمتطوعين، والتجربة دفعت الوزارة إلى التفكير في تحويل النموذج من حالة موسمية، إلى منظومة دعم غذائي يومي، تستند إلى بيانات دقيقة، وتعمل بالشراكة مع المجتمع المدني.
من التكية إلى مراكز الإطعام.. العقبي يوضح فلسفة المشروع الجديد
أوضح الدكتور محمد العقبي، مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي للاتصال الاستراتيجي، والمتحدث الرسمي باسم الوزارة، أن فكرة إعادة إحياء “التكية” لم تُطرح بصورتها التاريخية المعروفة، وإنما جاءت في سياق إشادة الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن، بنجاح مبادرة “أهل الخير للإطعام” خلال شهر رمضان الماضي، والتي أسفرت عن توزيع أكثر من 52 مليون وجبة ساخنة، بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، والجمعيات الأهلية.

الدكتور محمد العقبي، مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي للاتصال الاستراتيجي، والمتحدث الرسمي باسم الوزارة
وأشار “العقبي” إلى أن الوزيرة أكدت استمرار جهود الإطعام على مدار العام، وليس فقط في رمضان، لافتًا إلى تقسيم العام إلى مرحلتين: الأولى خلال شهر رمضان، والثانية من شوال حتى نهاية شعبان، كما كشف أن الوزارة بصدد إعداد تصور متكامل لإنشاء مراكز ثابتة تقدم وجبات غذائية مجانية بجودة عالية.
موضحًا أن تنفيذ تلك الخطة يتطلب تنسيقًا مشتركًا، بين وزارات التضامن، الصحة، الأوقاف، والتنمية المحلية، لضمان جودة الأغذية وتوفير مواقع مناسبة لتقديم الخدمة، وأكد أن وزارة التضامن ستتولى قيادة المبادرة من خلال صندوق دعم الجمعيات الأهلية، بالتعاون مع مختلف الجهات المعنية، وشدد على أن المشروع لا يندرج تحت مظلة الوزارة وحدها، بل يمثل خدمة إنسانية تستهدف المواطن المصري، الأولى بالرعاية.
واختتم الدكتور محمد العقبي المتحدث الرسمي باسم الوزارة، بالتأكيد على أن التسمية النهائية للمبادرة لم تُحدد بعد، لكنها لن تحمل اسم “التكية”، نظرًا لاختلاف المفهوم والدور، إذ ترتكز المراكز الجديدة على تقديم دعم عيني كريم، في شكل وجبات معدة، ضمن إطار تنموي يعكس قيم التكافل المجتمعي.
في وقت يتزايد فيه الشعور بالعجز لدى شرائح واسعة من المجتمع، تعود الدولة لتستحضر روح “التكية” القديمة، ولكن بثوب عصري يسعى لتقديم المساعدة لا كصدقة، بل كحق إنساني، المبادرة تفتح الباب لنقاش واسع: هل نحن أمام مشروع يُعزز قيم الرحمة والعدالة، أم محاولة لتجميل واقع اقتصادي مأزوم.
المشروع في جوهره يحمل بُعدًا إنسانيًا لا يمكن إنكاره، لكنه بحاجة إلى رؤية تنموية شاملة تضع الكرامة في المقدمة، وتجعل من الإطعام وسيلة انتقالية نحو الإكتفاء لا الإكتفاء بها كغاية، النجاح الحقيقي لن يُقاس بعدد الوجبات المقدمة، بل بمدى تقليص صفوف المحتاجين عامًا بعد عام.