إنفراد ـ بسمة البوهي
في زمن تتسارع فيه خطوات التطوير، تظل المدن التاريخية كنوزًا تنتظر من يذيح عنها غبار النسيان، وتعد إسنا تلك المدينة الواقعه جنوب الأقصر التي تحمل بين أزقتها القديمة ومبانيها التراثية، والتي تنبض روح حضارة وكادت أن تختفي، لكن مشروع إعادة إحياء إسنا جاء ليعيد هذه المدينة رونقها، ويحولها من موقع مهمل إلى مركز نابض بالحياة الثقافية والسياحية.
وأعلنت منظمة الآغا خان عن فوز مشروع إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية بصعيد مصر للمعماري “كريم إبراهيم” بجائزة الآغا خان للعمارة 2025، حيث يعالج المشروع التحديات المرتبطة بالسياحة الثقافية في صعيد مصر مع التركيز على النمو الشامل والحفاظ على التراث، وتضم مبادرات اجتماعية واقتصادية واستراتيجيات حضرية مبتكرة حولت المدينة من موقع مهمل يتمحور حول معبد خنوم إلى مركز تاريخي نابض بالحياة.
وتجسد الإحياء فى ترميم وإعادة استخدام وكالة الجداوي التي تعود إلى القرن الثامن عشر، وتطوير سوق القيسارية وشارع البازار وترميم بيت الضيافة الملكي من القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى إعادة تأهيل 15 موقعًا ذا أهمية معمارية.
وقد استُخدمت في التنفيذ مواد محلية مستدامة مثل الطوب اللبن والخشب مع اعتماد واسع على إعادة التدوير وإحياء التقنيات التقليدية وأسهمت مبادرات السياحة في زيادة عدد الزوار بشكل ملحوظ، إلى جانب توفير دعم للبنية التحتية والتمويل للشركات المحلية.
وفى ضوء هذا أشاد خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، بإهتمام الدولة ممثلة فى وزارة السياحة والآثار والمحليات بالتراث الثقافي بإسنا والذى أنتج مشروع “إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية”، الذى تم اختياره ضمن القائمة القصيرة لدورة جائزة الآغا خان للعمارة لعام 2025، والذى تم تنفيذه بالشراكة مع وزارة السياحة والآثار ومحافظة الأقصر وبدعم من حكومة الولايات المتحدة الأميركية ومملكة هولندا والوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية.

خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية
وأشار الدكتور ريحان إلى قيام وزارة السياحة والآثار بترميم وتطوير مدينة إسنا التى تعد من المحطات السياحية للبواخر السياحية النيلية، والتى تذخر بالآثار المتنوعة والعامة مما يعد إضافة جديدة للسياحة فى مصر، ودافع رئيسى لمزيد من الاستثمارات السياحية بها وتنشيط لكل مقومات السياحة بها.
سبب تسمية مدينة إسنا بهذا الإسم
ولفت إلى أن إسم إسنا المصرى القديم “سنى” والقبطى “أسنى” وسماها اليونانيون “لاتوبوليس”، وتشتهر بمعبد خنوم الذى يتوسط الآثار المسيحية والإسلامية بها ممثلة فى كنيسة السيدة العذراء ووكالة الجداوي الأثرية والمسجد العمرى ومسجد الزاوية البيضاء وقيسرية إسنا وقد شيد في العصر البطلمي بواسطة الملك بطليموس فيلوميتور عام 181 ق.م، وانتهى العمل به في العصر الروماني عام 250م، وخصص لعبادة خنوم ونيت ومنحيت، والمعبد الحالي شيد على أنقاض معبد الملك تحتمس الثالث، وتم إضافة أجزاء للمعبد في العصر الرومانى ومنها قاعة أساطين ونقوش تعود إلى عصور مختلفة.
ونوه الدكتور ريحان، إلى كتاب الدكتور حسن نور أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة سوهاج “مدينة إسنا وآثارها فـــــي العصور الإسلامية”، الذى يتضمن إشارات إلى أسواق مدينة إسنا وسويقاتها وقيسارتها ووكالاتها وحوانيتها ودكاكينها وفنادقها وأحيانًا مواضع هذه الأسواق، وأيام انعقادها حتى لا تكاد توجد سلعة زراعية أو حيوانية أو صناعية إلا وذكرتها سجلات المحكمة الشرعية بإسنا فذكرت سوق البياعة وسوق الغنم والدواب وسوق القصابين وسوق القصاصين وسوق المعادن وغيرها.
أشهر الآثار المسيحية الموجودة بالمدينة
وتابع الدكتور ريحان، بأن كتاب الدكتور حسن نور رصد الآثار المسيحية بإسنا ومنها مغارات المتوحدين بأصفون، وهى عبارة عن أماكن لسكني الرهبان تحت مستوى الأرض، ودير الرومانية بقرية الدير على الجانب الشرقي من النيل وآثار الكنيسة أمام معبد إسنا كشف عنها عام 1987، وهي تشبه الكنائس التي حول معبد الأقصر، وتعود إلى القرن السادس الميلادي ودير الشهداء غربي القرايا ودير الأنبا متاؤس الفاخوري على مسافة 16 كم شمال إسنا، ويعتبر من أهم الأديرة ويحجون إليه بكثرة، كما أشار الكتاب إلى الكنائس ومنها كنيسة السيدة العذراء بشارع الكنيسة بوسط المدينة، وهي كنيسة ضخمة ولكنها مجددة حديثا ما بين عامى 1954- 1958.
الآثار الإسلامية الموجودة في مدينة إسنا
وأشار الدكتور ريحان إلى الآثار الإسلامية الذى يتضمنها الكتاب، ومنها الجامع العمري “469- 470 هـ/1077 – 1078م” أو الجامع العتيق الذى يقع شرق معبد إسنا ولا يفصله عن نهر النيل غير شارع الكورنيش، ولهذا الجامع تاريخ عريق فقد تجدد عدة مرات، وكان سقفه يرتكز على ثلاثة عشر عمودًا من عصر البطالمة، والواقع أن هذا الجامع يرجع إلى ما هو أقدم من هذا التاريخ بتسعمائة وعشرين عامًا.
وتخلفت عن المسجد القديم اللوحة التذكارية لإنشائه، وكانت مثبتة على يمين المحراب وهي عبارة عن لوح من الرخام مقاسه 49×54 سم، يتضمن عشرة سطور من الكتابات الكوفية البارزة أفادت بأن المسجد أسس في عصر الإمام المستنصر بالله الفاطمي “429-487هـ/1036- 1094م”، وأمر بإنشائه بدر الجمالي المستنصري، وتعتبر مئذنة جامع إسنا من أقدم المآذن المؤرخة في مصر الإسلامية.
وتضم إسنا عمائر مدنية هامة، مثل الخانات وهي مبان عامة لإيواء الوافدين على المدينة من غير أهلها، وعادة ما يحتوى الدور الأرضي منها على حوانيت للتجارة، فهي من المنشآت التجارية ومن العمائر المدنية أيضًا مجموعة الدور والمنازل الأثرية، وهي كثيرة ومؤرخة ومنتشرة في بندر وقرى إسنا، ومنها المنشآت الصناعية كمعاصر الزيت، وقاعات نسج السجاد والكليم وأفران الفخار والجير.
ويقع خان حسن الجداوي 1207هـ/1792م على بعد 30م شمال معبد إسنا، ولا يفصله عنه سوي شارع وساحة رحبة جنوب الخان، والجداوي الذي بنى الخان والإيوان بإسنا هو حسن بك الجداوي، مملوك على بيك، ومن خشداشين “أي رفاق الخدمة” محمد بيك أبي الذهب، مات بغزة بالطاعون عام 1215هـ/1800م وكان من الشجعان الموصوفين والأبطال المعروفين، ولما انفرد على بيك بمملكة مصر ولاه إمارة جدة فلذلك لقب بالجداوي وذلك سنة 1184هـ/1770م.
واختتم الدكتور ريحان بأن مشروع “إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية” شمل أيضًا ترميم وكالة الجداوى بالأعمال الإنشائية والمعمارية وتجديد شبكة الصرف الصحى بها، وتغذيتها بالمياه وأعمال الإضاءة والإنارة إضافة إلى إعادة توظيفها بما يضمن بقائها عامرة بالأنشطة لخدمة البيئة المحيطة بها، وتطوير “سوق القيسارية” التراثي، وإعادة تأهيل عددًا من المباني ذات الطراز المعماري المتميز بمركز المدينة، وإحياء منطقة “معبد خنوم” والمئذنة العمرية والأسواق.
وتشمل إسنا منشآت صناعية منها معصرة ورثة أحمد بكور بشارع الكنيسة، وهى معصرة لاستخلاص الزيت بالطريقة اليدوية المعروف في إسنا منذ عصور مصر القديمة، وترجع مباني المعصرة وآلاتها إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وقاعات نسج السجاد والكليم.
ويوجد في إسنا وريفها حتى الآن قاعات صغيرة لصباغة الخيوط ولفها ونسجها بمختلف أنواع الصناعات النسجية، كالسجاجيد والأكلمة والحصر والشقق والحبر والشيشان وغيرها، علاوة على أفران الفخار والجير التي تبني عادة على ساحل النيل، أو بالقرب من مورد ماء.
وفي النهاية نرى أن إعادة إحياء تراث إسنا ليس مجرد عمليه ترميم عمراني، بل هي قصة نجاح ملهمة تجسد كيف يمكن للتراث أن يكون ركيزة للتنمية ومصدر فخر للأجيال القادمة، ومع كل حجر يعاد إلى مكانه، وكل حرفة تبعث من جديد تكتب إسنا فصلًا جديدًا في تاريخها عنوانه “الاصالة والنهضه”.