تحقيق – إيمان أشرف
تظهر أمامنا وجوهًا تبدو ملامحهم هادئة وعادية، أصواتهم منخفضة، وسيرة لا تشوبها شبهة، لكن خلف هذا الهدوء المزيف تختبئ واحدة من أعقد الشخصيات في التاريخ الإجرامي وهو «القاتل المتسلسل»، تتكرر المفارقة في كل قصة تقريبًا، رجل أو امرأة يعيشون بين الناس دون أن يُثيروا الشك، حتى يكتشف لاحقًا أنهم ارتكبوا أبشع الجرائم بدم بارد.
في كل مرة يُكتشف فيها عن «قاتل متسلسل»، تبرز معالم الدهشة على وجوه من عرفوه، الجيران يصفونه بأنه كان “هادئًا، خلوقًا، محترمًا”، وزملاء العمل يؤكدون أنه “منطوي لكنه مؤدب خلوقًا، ولديه حسن السيرة والسلوك، والاحترام، ويبدو عليه المثالية”.
يكمن هنا السؤال “كيف لشخص يبدو عاديًا، وربما مثاليًا إلى حد كبير، أن يحمل بداخله هذه الوحشية، وأيضًا لماذا يختفي العنف خلف ملامح السكينة والبراءة، وكيف يمكن أن يبدو القاتلة المتسلسلون أكثر انضباطًا وهدوءًا كم المجرمين العاديين”.
من مجرم إلى سفاح.. أين تبدأ الجريمة وأين تتحول إلى هوس بالقتل
يطلق مصطلح «مجرم» على كل من ينتهك القانون، أو يؤذي الآخرين عمدًا، سواء بالقتل أو السرقة أو الاحتيال، بدافع السلوك الإجرامي، أو لحظة غضب، أو نتيجة ظرف اجتماعي، أما عن «القاتل» فهو الشخص الذي أنهى حياة إنسان آخر عمدًا أو خطأً، لمرة واحدة أو في حادثة معينة، للرغبة في الانتقام أو الحصول على الأموال.
يعد «السفاح» هو الشخص الذي يقتل عددًا كبيرًا من الأشخاص بطريقة وحشية بشعة دون رحمة أو شفقة، وقد يشوه الجثث، بدافع التلذذ بالعنف دون الشعور بالذنب، أما «القاتل المتسلسل» فهو نوع خاص من السفاحين ولكنه أكثر تنظيمًا، يرتكب جرائم قتل متفرقة على فترات زمنية طويلة، لكل منها دافع نفسي متكرر.
الانطوائية.. جدار الصمت القاتل الممزوج باضطرابات نفسية
يميل الشخص الانطوائي إلى العزلة والهدوء والتفكير الداخلي، وعند بعض الأشخاص تتحول الانطوائية إلى العزلة المرضية، ما يؤدي إلى انفصال عن الواقع، ويستغل القاتل هذه العزلة ليبني عالمًا داخليًا بديلًا، يتحول فيه الغضب والألم إلى خيالات عنف يكررها ذهنيًا حتى تتحول إلى فعل.
تظهر سمات الانطوائية على القاتل لكنها تكون زائدة وممزوجة باضطرابات نفسية أخري مثل انعدام التعاطف، صدمات طفولة، تنمر شديد، انعزال اجتماعي طويل جعلهم ينسحبون من الواقع، ويعيشون في خيالهم الداخلي بشكل مفرط.
بذلك تصبح الانطوائية مساحة تربية الفكرة الإجرامية، لأن غياب التفاعل الاجتماعي يحرم الفرد من التصحيح أو الاحتواء النفسي، فينمو الخلل في صمت، ويتطور مع مرور الوقت، حتى ينشأ قاتل يفتعل الجرائم دون الشعور بتأنيب الضمير.
أخصائي الطب النفسي: وراء المظهر الهادئ اضطرابات معادية للمجتمع
كشفت الطبيبة “هاجر عون” أخصائي الطب النفسي بمستشفى العباسية، عن رأيها في في العلاقة بين الانطوائية والقتلة المتسلسلين، قائلة: «لا أتفق مع الرأي القائل بأن القتلة المتسلسلين والسفاحين جميعهم شخصيات انطوائية، إذ نجد بعضهم شخصيات اجتماعية وعامة، بل ومشهورة في المجتمع، صحيح أن هناك أشخاصًا يُعرفون بحسن السيرة والسلوك، إلا أن ذلك لا ينطبق على الجميع، فالأمر يختلف باختلاف طبيعة الشخصية».
تابعت: «فإذا كانت الشخصية مصابة باضطرابات نفسية معادية للمجتمع “Antisocial Personality Disorder”، فإن سلوكها في الغالب يكون منحرفًا عن القواعد الاجتماعية والقانونية، وتميل إلى الإجرام وعدم الاكتراث بالآخرين، أما الشخصية النرجسية فهي الأخطر، لأنها لا تُظهر سوءها بوضوح، فعندما لا يبدو الشخص سيئًا من الخارج، تقل احتمالية أن نحذر منه، مما يجعلنا أكثر عرضة للخطر، إذ يبدو ظاهرياً لطيفاً وجذاباً، وهنا تكمن المشكلة الكبرى».
تطرقت “هاجر عون” في حديثها عن أبرز المؤشرات التي تكشف عن الشخصية القاتلة، وهي غياب الشعور بالذنب أو التعاطف مع الآخرين، إضافةً إلى وجود مظاهر للعنف في مجالات مختلفة من الحياة، وليس بالضرورة أن تكون جسيمة؛ فقد يظهر العنف في التعامل مع الأضعف، سواء في العمل أو الحياة اليومية.
أوضحت “هاجر” ان العنف له صور متعددة، منها العنف الجسدي والنفسي، والأخير أشد خطرًا، إذ يتجلى في التخويف، والتهديد، والإهانة، والتنمر، والحرمان من الحقوق، أو الإكراه على أمرٍ ما، بالإضافة إلى العنف الجنسي، وغياب القيم الواضحة لدى الفرد.

الدكتورة “هاجر عون” أخصائي الطب النفسي بمستشفى العباسية
أخصائي الطب النفسي: العوامل النفسية والاجتماعية وراء تكوين الشخصية العنيفة والقاتل المتسلسل
أشارت الطبيبة النفسية إلى الناحية الفسيولوجية، معلقه: «غالبًا ما يرتبط الشخص العنيف بارتفاع مستوى هرمون التستوستيرون، إضافة إلى تركيبة دماغية تُظهر استعدادًا جينيًا موروثًا نحو العنف، ومع ذلك، لا يمكن الجزم بأن كل من تعرّض للعنف في طفولته سيصبح عنيفًا؛ فهناك من يمرّ بتجارب قاسية دون أن يتحول إلى العنف، والعكس صحيح، فالعنف في أصله قد يكون موروثًا، لكنه لا يظهر إلا في بيئة خصبة تسمح له بالنمو».
أضافت أخصائية الطب النفسي: «أما العوامل التي تؤدي إلى نشوء فكرة القتل، فتبدأ عندما يمتلك الفرد ميولًا عدوانية منذ الصغر دون أن يُحاسَب عليها، فلا يتحمل مسؤولية أفعاله، ويلقي اللوم دائمًا على الآخرين، ومع غياب العقاب أو العلاج المناسب، تتطور تلك الميول إلى أفكار قاتلة».
اختتمت الطبيبة النفسية حديثها بأن لا يمكن اعتبار كل من لديه استعداد وراثي شخصًا عنيفًا بالضرورة، إلا أن توافر البيئة المهيئة لذلك كالإدمان، وغياب القيم الدينية، والتعرض للعنف في الطفولة أو في المدرسة أو العمل، يسهم في تعزيز هذه النزعة، فحين يُحرَم الشخص من حقوقه في مراحل مبكرة، ولا يتلقّى الرعاية أو التعليم الكافيين، تتكرّس لديه أنماط سلوكية عدوانية، ومع مرور الوقت تنشط الجينات المسؤولة عن العنف».
الهدوء القاتل: لماذا يمتلك القتلة المتسلسلون مظهرًا هادئًا وسلوكًا حسنًا
من أبرز سمات «القتلة المتسلسلين» أنهم يظهرون بصورة مثالية أمام الناس، فهم يتقنون فن التمويه الاجتماعي أو «القناع الاجتماعي»، فهو سلوك متعمد يجعل الشخص يبدو طبيعيًا، حتى لا يُثير الريبة حوله، فيقوم بتمثيل سلوك الأسوياء حتى يستطيع الاندماج داخل المجتمع ويفتعل جرائمه.
يعمل حسن السلوك الظاهري كغطاء يمكن القاتل من التحرك والتجول بحرية والحصول على ثقة الآخرين بكل سهولة، دون إظهار الصراعات النفسية الداخلية والعدوان المكبوت، واضطرابات في الشخصية للقاتل.
لا يعد الهدوء الذي يتميز به القاتل نابعًا من طيبة، بل انعدام المشاعر والبرود العصبي، حسث أثبتت دراسات تصوير الدماغ أن نشاط اللوزة الدماغية لديهم منخفضة، وهي المنطقة المسؤولة عن الخوف والتعاطف، وبالتالي لا يشعرون بالقلق أو الذنب، حتى بعد ارتكاب الجريمة، فيبدو عليهم ثبات غريب يخدع به الآخرون.
في النهاية نستطيع القول إن شخصية «القاتل المتسلسل» هي نتاج تفاعل معقد بين عوامل نفسية واجتماعية وبيولوجية، لا يمكن اختزالها في صفة واحدة كالانطوائية أو الهدوء، فبينما قد تبدو الانعزالية، وحسن السلوك، والمظهر المتزن سمات إيجابية في ظاهرها، إلا أنها قد تتحول داخل بعض الأفراد إلى آلية دفاعية تخفي صراعات داخلية عميقة، تنفجر في صورة عنف مروّع وغير مفهوم.
يكشف هذا النمط من الجرائم عن هشاشة الحدود بين العادي والمريض، فالمجتمع يرى الواجهة فقط، ولا يدرك ما يدور خلفها من اضطرابات قد تتفاقم مع الزمن، لذلك فإن فهم هذه الشخصيات لا يجب أن يقتصر على الجانب الإجرامي، بل يتطلب نظرة أوسع تشمل التنشئة، والصدمات المبكرة، والعوامل الوراثية، بيئة الثقافية التي قد تُطبع في أذهان البعض صورة مشوّهة عن القوة، والانتقام، والسيطرة.




