تحقيق – روفيدا يوسف
“قتلتهم علشان أريحهم من العيشة”، “ماقدرتش أتحمل المصاريف”، “كنت تعبانة ومش شايفة نور”، هكذا جاءت اعترافات القتلة في كل الحوادث الأخيرة، لكن هل الفقر وحده يدفع أمًا أو ابًا لخنق طفلتهم، وهل الضغط النفسي يُبرر ذبح أطفال لا يعرفون إلا البراءة.
في مشهدٍ تكرّر أكثر مما يُحتمل في الآونة الأخيرة، لم تعد أخبار قتل الأبناء على يد الآباء أو الأمهات مجرد استثناءات أو حوادث فردية، بل تحوّلت إلى ظاهرة مقلقة تتكرر بدم بارد، لا يمر شهر في مصر إلا وتتصدر العناوين قصص عن أم خنقت أطفالها الثلاثة، أو أب ذبح ابنه وادعى الجنون، أو أسرة دفنت طفلتها سرًا بعد تأديب مميت.
وما بين ضغوط اقتصادية مرهقة، وأمراض نفسية مكبوتة، وتفكك اجتماعي آخذ في التصاعد، ينهار جدار الأمان الأول للطفل داخل بيته، فكيف ولماذا يصل أب أو أم إلى قرار إعدام أطفالهم؟، وهل نحن أمام خلل فردي أم أزمة مجتمعية أعمق؟.
البيت مأوى أم مقبرة.. حين تتحول يد الأم والأب إلى أداة موت
هذه الجرائم تُظهر تشابهًا مخيفًا في نمط التفكير والظروف، عزلة، ضغوط نفسية، مشاكل مادية، انقطاع عن المجتمع، وغياب أي تدخل مبكر من الأسرة أو الدولة أو المؤسسات الاجتماعية، معظم الجناة لم يشخصوا نفسيًا، ولم يسعى أحد لمعرفة ماذا يدور في دواخلهم، هنا يصبح السؤال: من المسؤول، هل هم الأم والأب فقط؟، أم مجتمع لم يصغي ولم يسند، ولم يُراقب إشارات الخطر.
ذبحوها لأنها تزوّجت من غير إذنهم.. هل أصبحت الكرامة العائلية تغسل بالدم
في واحدة من أبشع جرائم العنف الأسري، قُتلت فتاة في العقد الثاني على يد والدها وشقيقها وابن عمتها في منطقة أبو النمرس بالجيزة، لمجرد أنها تزوجت دون إذنهم، الفتاة كانت قد غادرت منزل الأسرة منذ أشهر بسبب خلافات، وتوجهت للغردقة حيث تزوجت من شاب اختارته بنفسها، قبل أن تعود برفقة أهلها بعد إقناعهم لها، لكنها لم تكن تعلم أن عودتها هي بداية نهايتها.
إرتكب الأب جريمته البشعة بمساعدة أقاربه، فذبحوا الفتاة وفصلوا رأسها عن جسدها، وألقوا بجثتها في منطقة نائية، مبررين فعلتهم بما وصفوه بـ”العار العائلي”، والمثير للصدمة أن الأم كانت حاضرة أثناء الجريمة، وكأن الصمت صار شراكة.
هل وصل بنا الحال إلى أن تُغسل الكرامة العائلية بالدم؟ هل أصبحت حياة الفتاة بلا قيمة، فقط لأنها اختارت أن تحب وتتزوج؟ كيف يمكن لعائلة أن تتحول إلى قاتل جماعي، بدافع “غسل العار”.
أب يذبح أطفاله الثلاثة.. في قرية “زهرة” التابعة لمحافظة المنيا
حين يغيب صوت العقل، وتُغلق نوافذ الرحمة، يتحول الأب من حامٍ إلى قاتل، يذبح أولاده بيده، وكأنهم خصومه في ساحة قتال، ففي 3 يوليو 2025، بقرية زهرة التابعة لمركز المنيا، استيقظ الأهالي على جريمة بشعة أب يقتل أبناءه الثلاثة بين عامين و7 أعوام مستخدمًا آلة حادة.
كان الأب يعيش بمفرده مع الأطفال بعد أن تركت الزوجة المنزل بسبب خلافات، عاد الأب من يوم عمله، ودخل إلى الغرف، وقتلهم جميعًا، واحدًا تلو الآخر دون مقاومة، والتحقيقات كشفت أن الأب لم يكن يتلقى أي علاج نفسي، لكنه كان يمر بحالة من الاضطراب والقلق والانهيار العائلي، خصوصًا مع ترك زوجته للمنزل، النيابة أمرت بتشريح الجثث، وتحليل المخدرات، ومباشرة التحقيق مع الأب.
أم تقتل أطفالها الثلاثة بدم بارد في الشروق
تجردت الأم في لحظة من كل مشاعر الأمومة، استسلمت لتبلد حسي ونفسي، وارتدت قناع الوحش الداخلي دون رجعة، في منطقة الشروق، وفي يونيو 2025، توجهت أم في العقد الثالث لقسم الشرطة، واعترفت ببرود أنها قتلت أطفالها الثلاثة خنقًا، أعمارهم لم تتجاوز التاسعة، قالت بوجه بارد: “كنت بريحهم من الحياة، مش قادرة أكمل ولا أأمن لهم مستقبل”.
وبحسب التحقيقات، كانت الأم تعاني من اكتئاب حاد بعد الطلاق، وتعجز عن توفير مصروفات المدارس الخاصة، فشعرت بأن أبناءها “عالة على مستقبلهم”، فقررت أن تريّحهم، وفي سردها وصفت كيف بدأت بابنها الأكبر: “كنت بلعب له في شعره عشان ما يخافش، وبعده الصغير ويليه بنتي، غنّيتلها وهي بتضحك، وخلصت عليهم واحد ورا التاني”.
وأكد الطب الشرعي وجود كدمات حول الرقبة، وأثبت أن الوفاة ناتجة عن ضغط يدوي على الرقبة منع التنفس لدقائق، وتم تحويل الأم لـمستشفى الأمراض النفسية للوقوف على حالتها، بعد أن بدا واضحًا انهيارها العقلي.
أب ينهي حياة ابنه بطعنة قاتلة في حدائق القبة
في واقعة صادمة تعكس فتور في المشاعر وانهيار الروابط الأسرية، أقدم أب في العقد الخامس من العمر، على قتل نجله البالغ من العمر نحو 30 عامًا، داخل شقتهما بمنطقة حدائق القبة، وبحسب التحقيقات نشبت مشادة كلامية بين الأب والابن تطورت إلى مشاجرة عنيفة.
ليقوم الأب بتسديد طعنة نافذة في صدر ابنه بسلاح أبيض، ما أدى إلى وفاته بعد دقائق من وصوله إلى المستشفى، النيابة أمرت بحبس المتهم بعد اعترافه الكامل بإرتكاب الجريمة، مؤكدًا أن ابنه كان دائم الاعتراض عليه ومثيرًا للمشاكل، فهل يُعقل أن يتحول الأب مصدر الأمان والحماية، إلى القاتل ابنه بيديه، لمجرد الاعتراض!؟.
حضّرت السحور وقتلتهم.. جريمة القليوبية في لحظة ما قبل الفجر
في هدوء الليل وخاصًة ما قبل أذان الفجر، تحوّلت اليد التي تُطعم إلى يد تقتل، بلا دمعة ولا صرخة، في محافظة القليوبية وقبل دقائق من الآذان في رمضان، أقدمت أم على خنق أبنائها الثلاثة أثناء نومهم، ثم حاولت الانتحار بعدها، لم يسمع أحد أصواتًا، ولم يكن هناك مقاومة، فقط برودة في الفعل ووجع في التفاصيل.
اعترفت الأم لاحقًا أنها كانت تمر بـضغوط اقتصادية ونفسية كبيرة، وأنها فقدت السيطرة على نفسها، ولم تشعر بما فعلته إلا بعد فوات الأوان، والنيابة أثبتت غياب أي تدخل خارجي، وقررت تحويل الأم أيضًا للفحص النفسي، مع تشريح الجثث وتحليل دم المتهمة.
أخصائي نفسي يوضح: ميول التسلط وغياب الندم من أبرز دوافع الآباء لقتل أبنائهم
تؤكد الدكتورة “هاجر عون” أخصائي الطب النفسي بمستشفى العباسية، إن الأسباب النفسية التي تدفع أبًا أو أمًا لقتل أبنائهم لا تُعد في الغالب اضطرابات عقلية واضحة، بل تنبع من ميول إجرامية تتجلى في الرغبة في التسلط والسيطرة، أو الخوف من الفضيحة أو ما يسمى “بقضايا الشرف”، وأن الشعور بالملكية تجاه الأبناء، كأنهم متاع شخصي، يُعد من أبرز الدوافع التي تُسهِّل إرتكاب مثل هذه الجرائم.

الدكتورة “هاجر عون” أخصائي الطب النفسي بمستشفى العباسية
وأوضحت الدكتورة أن الإكتئاب نادرًا ما يكون سببًا مباشرًا في قتل الأهل لأطفالهم، إلا إذا كان مصحوبًا بأعراض ذهانية تذهب بالعقل، مثل الهلاوس السمعية، أو البصرية، أو الضلالات كاعتقاد الشخص بأن هناك من يراقبه أو يتحكم فيه.
وأضافت أن في هذه الحالات، يكون هناك اضطراب عقلي يفقد الإنسان صلته بالواقع، وهو ما يختلف عن الاضطرابات النفسية مثل الإنفصام، أو الاكتئاب غير الذهاني، مشيرة إلى أن الذهان قد يجعل المريض يرتكب جريمة دون إدراك لما يفعل.
وأشارت الدكتورة هاجر أن هناك آباء يكون لديهم تاريخ من الميول الإجرامية، وهي ميول تتغذى على بيئة اجتماعية مهيأة للعنف، كما أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تلعب دورًا في تأزيم الحالة النفسية، لكنها ليست مبررًا كافيًا لإرتكاب الجريمة، وإلا لكان إرتكب الجميع من مثل هذه الطبقات جرائم مماثلة، وهو أمر غير منطقي.
وقالت “عون” إن العنف الأسري هو المؤشر الأخطر على احتمالية حدوث جريمة لاحقة، ولافتة إلى أن هذا العنف قد يكون جسديًا، أو جنسيًا، أو نفسيًا، وأضافت أن العنف النفسي أشد خطورة لأنه غير مرئي ولا يترك أدلة ملموسة، ما يجعل الضحية أحيانًا تشك في ذاتها وتتساءل إن كان ما تتعرض له يُعد عنفًا بالفعل.
وشددت على أن غياب الشعور بالذنب أو التعاطف مع الأبناء يُعد من السمات النفسية الخطيرة التي تستوجب التعامل معها بصرامة، موضحة أن فكرة أن الأبناء ملكية خاصة تُشير إلى خلل نفسي خطير يجب أن يُقابل بعقاب قانوني حازم، وليس فقط بالعلاج.
كما حذرت أخصائية الطب النفسي من الربط الخاطئ بين الأدوية النفسية والقتل، مؤكدة أن العكس هو الصحيح، فالأدوية النفسية تساعد المريض على الشفاء، بينما تُعد المخدرات من أخطر أسباب العنف الأسري وجرائم القتل، وأشارت إلى أن المخدرات تذهب بالعقل وتدفع المدمن لإرتكاب أي فعل في سبيل الحصول على المادة المخدرة، وقد يدفعه ذلك إلى بيع أبنائه أو قتلهم.
وأشادت الدكتورة إن نقص الإيمان أو ضعف الوازع الديني يُعتبر من المحفزات الأساسية لجرائم القتل، لأن غياب الضمير والقيم الأخلاقية يُفقد الشخص السيطرة على سلوكه، ويجعله أكثر عرضة لإرتكاب الأذى دون تردد.
وأوضحت أن التمييز بين المريض النفسي والمضطرب نفسيًا يتم من خلال التقييم النفسي الشرعي، حيث يحدد الطبيب الشرعي ما إذا كان الجاني مدركًا لما يفعله أم لا، فإن ثبت أنه مريض عقلي غير مسؤول عن تصرفاته، يتم إيداعه بمستشفى الامراض النفسية مدى الحياة، حفاظًا على نفسه وعلى المجتمع.
أكّدت أخصائية الطب النفسي أن هناك أنواعًا من الوسواس القهري والقلق والاكتئاب قد تؤدي إلى القتل، ولكن فقط إذا كانت مصحوبة بأعراض ذهانية، في هذه الحالات يكون المريض غير مستبصر بحالته، أي لا يدرك أنه مريض، ما يزيد من خطورة سلوكه.
واختتمت الدكتورة هاجر عون حديثها بالتأكيد على ضرورة توعية أفراد الأسرة بمخاطر العنف، وضرورة أن يحصل كل فرد على حقه القانوني، حتى إن كان الجاني من داخل الأسرة، وأضافت: “ليس هناك في الشرع أو القانون ما يُبرر الصمت على العنف أو التضحية بالنفس من أجل إرضاء الجاني، فحفظ النفس حق، والدفاع عنها أولوية لا يجب التنازل عنه تحت أي ظرف”.
طفولة منتهية الصلاحية.. من يحمي البراءة حين يفشل الجميع
الأطفال لا يختارون آباءهم، ولا يُطلب منهم فهم فواتير الحياة الثقيلة، أو تحمل صدمات الكبار، لكنهم يدفعون الثمن كاملًا حين ينهار البيت، في كل جريمة من تلك الجرائم، كان يمكن إنقاذ الضحايا لو أن المجتمع امتلك آذانًا صاغية، وقلوبًا حقيقية تتفقد التعب في العيون، وتلاحظ الصمت الطويل، والغياب المتكرر عن الحياة.
فالمأساة لا تبدأ عند القتل، بل قبلها بكثير، حين يطفأ نور الأمل في صدر أم، أو تنكسر رجولة أب أمام احتياجات أولاده، ولا يجد من يعيده فهل ننتظر الجريمة لنرى الطفل أم نُبصره وهو ما زال حيًا؟.
فكثير من الأمهات والآباء الذين أزهقوا أرواح أبنائهم، لم يكونوا وحوشًا في الأصل، بل أناسًا انهارت أعمدتهم النفسية والاجتماعية، وسقطوا دون أن يمدّ لهم أحد يدًا، لكن هل هذا يكفي لتبرير الجريمة قطعًا لا لكنه يفرض علينا سؤالًا صادمًا: كم من الأسر الأخرى تسير على الحافة الآن؟.