تحقيق – بسملة الجمل
تتصاعد عدسات الهواتف في لحظات الفقد، لا لتسجيل الذكرى، بل لبث الجنازة مباشرة أمام آلاف الغرباء، يتحول المشهد الجنائزي من وداع صامت ومهيب، إلى عرض مفتوح على الشاشات، تتدفق فيه التعليقات كما لو كانت مباراة كرة أو بثًا ترفيهيًا.
وتتساقط التعليقات في لحظة الحزن دعاء من هنا، وجملة عابرة من هناك، وأحيانًا كلمات لا تليق بجلال الموقف، يتساءل المتابعون هل بات الموت وسيلة للحصول على التفاعل والمشاهدات.
كذلك تشتعل نقاشات بين من يرى أن مشاركة الجنازة عبر البث المباشر تمنح الآخرين فرصة للدعاء والمواساة، وبين من يعتقد أنها انتهاك صريح لخصوصية الميت وأهله، بل وتجرد الموت من هيبته.
كما تتصادم الآراء حول جدوى هذه الظاهرة فريق يعتبرها صورة من صور الرياء الإلكتروني، وفريق آخر يصفها بامتداد طبيعي لعصر السوشيال ميديا، الذي لم يترك لحظة إلا وحولها إلى محتوى.
وتفرض هذه الظاهرة أسئلة أخلاقية ودينية ونفسية عميقة هل من حق أي شخص أن يحول الجنازة إلى عرض مباشر، وهل يملك أهل الميت القدرة على منع الغرباء من اقتحام حزنهم، وكيف يؤثر هذا المشهد على الأطفال والمراهقين الذين يشاهدونه خلف الشاشات.
كذلك تضع ظاهرة “الجنازات على الهواء” المجتمع أمام اختبار صعب إما صون حرمة الموت والاحتفاظ بقدسيته، أو تركه فريسة لعالم البث المباشر الذي لا يعرف حدودًا، ولا يحترم خصوصية.
حرمة الميت في مواجهة كاميرات العصر الرقمي
وتسلط هذه الظاهرة الضوء على أسئلة أخلاقية مهمة حول احترام حرمة الموت والميت، فتصوير الجنازات وبثها أمام جمهور عام يعد تجاوزًا للخصوصية الإنسانية، ويخالف المبادئ الأخلاقية التي تدعو إلى صون كرامة الأحياء والأموات على حد سواء.
وتحث الأخلاق على الحفاظ على مشاعر أهل الميت، فبث الجنازة دون إذنهم يعد تعديًا على مشاعرهم وحقهم في وداع هادئ ومهيب، ويضعهم في مواجهة مع جمهور أجنبي غير معني بالحزن الحقيقي.
وتبرز أهمية التمييز بين النية الطيبة والنية المادية، فهناك فرق كبير بين من يبث الجنازة لمشاركة الدعاء والمواساة، ومن يفعل ذلك لجذب المشاهدات والتفاعل على وسائل التواصل، الأمر الذي يفقد الحدث هيبته ويحوله إلى عرض ترفيهي بحت.
كما تشدد المبادئ الأخلاقية على أن التكنولوجيا لا ينبغي أن تكون أداة لانتهاك حقوق الآخرين أو استغلال لحظات الحزن، بل يجب استخدامها بما يحقق الخير والاحترام للآخرين، خاصة في لحظات الموت والفقد التي تتطلب تقديرًا وحساسية قصوى.
قدسية الوداع الأخير بين نص الشرع وكاميرات العصر
أوضح الشيخ عربي أن الأصل أن الميت له حرمة كحرمة الحي، كما قال النبي ﷺ “كسر عظم الميت ككسره حيًا” “رواه أبو داود وابن ماجه”، والتصوير والبث المباشر إذا كان فيه إظهار لجسد الميت أو مشاهد تمس كرامته، فهو غير جائز شرعًا واعتداء على حرمته.
وأكد الشيخ أن النصوص الدينية جاءت لتؤكد ضرورة صون حرمة الميت وعدم إظهاره في مشاهد قد تنتقص من كرامته، ومنها الحديث السابق، وأيضًا قول النبي ﷺ “إذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم” “رواه أبو داود”، وهو دليل على أن الشريعة تؤكد احترام الميت، وحسن ستره وعدم نشر ما يسيء له.
كذلك أشار الشيخ عربي إلى أن نشر صور أو مقاطع فيديو للجنازة دون إذن من أهل الميت لا يجوز، لأن ذلك اعتداء على حق الخصوصية، وهو داخل في باب “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه” “رواه أحمد”، والخصوصية من الحقوق التي يجب صونها.
كما أوضح أن الأجر في الدعاء يصل للميت أينما كان الداعي، ولا يشترط أن يشاهد الجنازة، لكن لو كان الهدف من البث أن يتمكن البعيد من المشاركة بالدعاء دون كشف الميت أو انتهاك حرمته، فيجوز من باب المصلحة بشرط أن يتم بحذر شديد وتحت إذن أهله.
كذلك أكد الشيخ أن الدعاء للميت يصل إليه ولو كان مكتوبًا أو منطوقًا، والله يعلم نية الداعي، أما “التعزية الإلكترونية” فهي وسيلة عصرية وليست مقصودة لذاتها، لكن إن صدقت النية فهي عبادة، وإن كانت لمجرد المجاملة أو التظاهر فهي عادة فارغة.
ورأى أن الأمر نسبي إن كان الغرض مشاركة صادقة ومراعاة للضوابط فهي وسيلة عصرية للتعبير، أما إن كان البث لاستعراض الحشود والمبالغة في “اللايكات” والمشاهدات، فهو من الرياء والمباهاة المذمومة.
وأوضح أن التمييز بين النية الصادقة لمواساة أهل الميت والدعاء له، وبين البحث عن التفاعل والمشاهدات، يكون بالنية الباطنة، لكن تظهر القرائن من يكتفي بالدعاء دون استعراض أو تعليق ملفت يرجى صدقه، أما من يكثر من الصور، العناوين الجاذبة، والبحث عن المشاهدات، فالأقرب أن نيته ليست خالصة.
كذلك نصح الشيخ عربي الأهالي والمعزين باحترام حرمة الميت، والاكتفاء بالدعاء له ونشر العزاء بطرق تحفظ كرامته، وإذا كان لا بد من البث، فليكن بصورة مقتضبة، دون إظهار الجثمان أو تفاصيل تجرح مشاعر الناس.
كما دعا المجتمع إلى إحياء القيم الدينية والأخلاقية التي تؤكد على ستر الميت والدعاء له، وتوعية الناس بخطورة تحويل الموت إلى “محتوى”، والحفاظ على هيبة الموت يكون بالتركيز على العظة والاعتبار لا على التوثيق والمظاهر.
عندما تتحول لحظات الوداع إلى مشاهد رقمية بين القلوب والشاشات
وتدعو هذه الظاهرة المجتمع لإعادة التفكير في قيمه وأخلاقه الرقمية، مع التأمل في كيفية التعامل مع لحظات الحزن والموت في عصر التكنولوجيا، فحين تتحول لحظة وداع شخص عزيز إلى مادة للنشر على وسائل التواصل، تختلط المشاعر الحقيقية بعرضها أمام الجمهور.
وذلك ما يستدعي وعيًا أكبر بما ننشر وكيفية احترام مشاعر الأهل في مثل هذه اللحظات الحرجة، وتبرز أهمية أن الموت لحظة إنسانية بحتة، تستحق كل درجات الاحترام والتقدير، وأن الكاميرا مهما تطورت لا تستطيع أن تعكس الألم العميق في قلوب الأهل أو تحل محل الدعاء الصادق.
كما تعيد إلى الأذهان معنى الخصوصية والكرامة، وتوضح أن لحظات الوداع الأخيرة يجب أن تبقى محفورة في ذاكرة الأهل والقلوب بعيدًا عن الشاشات وحسابات السوشيال ميديا، لأن تجاوز هذه الحدود قد يحرم الأهل من الشعور الكامل بالوداع ويحول اللحظة إلى مجرد محتوى عام.
وتوضح أن التكنولوجيا أداة يمكن أن تستخدم لنشر الخير والمواساة، أو تتحول إلى سبب لإضعاف القيم الإنسانية إذا غاب الوعي والضبط، كما تترك للقارئ شعورًا بالتساؤل حول قدرته على الموازنة بين احترام قدسية الموت ومغريات البث المباشر، وهل يمكن الحفاظ على هيبة الموت في زمن اللايف، أم أن وسائل التواصل ستمحو تدريجيًا الاحترام والقدسية التي طالما ارتبطت بلحظات الوداع الأخيرة.