تحقيق – مريم ناصر
في زمن تتسارع فيه منصات السوشيال ميديا، لم تعد الشهرة حلمًا بعيدًا، بل صارت واقعًا يوميًا يسعى إليه كثيرون، التريندات تتصدر في لحظات، والبث المباشر أصبح طريقًا سريعًا لجمع الأموال، حتى باتت هذه الظاهرة في مواجهة مباشرة مع الدولة، وفتحت بابًا واسعًا للتساؤلات حول تأثيرها على المجتمع وقيمه.
ويرى البعض أن هذه المنصات تعكس تقدمًا في الأفكار والانفتاح على العالم، بينما يرى آخرون أنها خلقت واقعًا زائفًا دفع الشباب إلى السعي وراء الشهرة السهلة والسريعة، حتى تحولوا إلى ضحايا لعالم افتراضي، لا يعتمد على الجهد بقدر ما يسعى وراء الربح السريع، مما يتركنا أمام صدمات تعيد تشكيل فهمنا للحياة وأولوياتها.
غسيل الأموال عبر البث المباشر.. من الهدايا الافتراضية إلى الأرباح المشبوهة
تعد هدايا “تيك توك” من أشهر وسائل الدعم التي يستخدمها المتابعون، لمساندة صناع المحتوى أثناء البث المباشر، وتعتمد هذه الهدايا على عملة رقمية داخل التطبيق تعرف باسم الكوينز “Coins”، حيث يقوم المستخدم بشرائها بأموال حقيقية، ثم يستخدمها لإرسال الهدايا المختلفة مثل “الوردة”، “الأسد”، أو “تيك توك يونيفرس”، وتختلف أسعار الهدايا باختلاف عدد الكوينز المطلوبة، بدءًا من هدايا بسيطة وصولًا إلى هدايا تتجاوز قيمتها عشرات الآلاف من الجنيهات.
غسل الأموال.. من مغاسل كابوني إلى البثوث المباشرة
يأتي الثراء في العادة عبر طريقين معروفين، إما عن طريق الوراثة، أو من خلال الصعود التدريجي عبر العمل والجهد، أما أن يظهر شخص فجأة ويمتلك ثروة هائلة دون أن يكون له تاريخ واضح في الإنجاز، فهذا غالبًا ما يثير الشكوك، وفي مثل هذه الحالات، يبدأ التساؤل حول مصدر هذه الأموال، وهل جاءت بطرق قانونية أم لا.
وجاءت تسمية “غسل الأموال” في عشرينيات القرن الماضي، حين قام رجل العصابات الشهير “ألفونسي كابوني” بافتتاح سلسلة مغاسل في الولايات المتحدة، ليستخدمها كغطاء لإخفاء مصدر أمواله القذرة، ومنذ ذلك الحين تطورت الأساليب لتشمل عصابات متخصصة، تعمل بثلاث مراحل أساسية، والأولى هي “الإيداع” تفكيك المبالغ الكبيرة، وإيداعها في حسابات متعددة بأسماء مختلفة، ثم “التمويه” تحويل الأموال بين حسابات، وبنوك ودول مختلفة لإخفاء أثرها، ثم “الدمج” لإعادة الأموال إلى أصحابها بعد أن تبدو قانونية تمامًا.
هدايا رقمية بملايين الجنيهات.. غسل الأموال عبر تيك توك
ظهرت اليوم طريقة أكثر ذكاء لغسل الأموال عبر “تيك توك”، يقضي صانع المحتوى ساعات طويلة في بث مباشر، ليتلقى دعمًا على شكل هدايا مثل “الوردة”، و”المركب”، و”الأسد”، يقوم “تيك توك” بتحويل هذه الهدايا إلى أموال بعد اقتطاع عمولته التي تصل إلى نحو 50%.
ويأتي على سبيل المثال “الوردة” تكلف الداعم 22 جنيهًا وتصل لصاحب البث 13 جنيهًا، “الموتوسيكل” يكلف 640 جنيهًا أي «12 دولارًا»، ويصل 384 جنيهًا «7.06 دولار»، و”الحوت” يكلف 7500 جنيه «150 دولارًا»، ويصل 4500 جنيه «90 دولارًا»، “الأسد” يكلف 20 ألف جنيه «400 دولار»، ويصل 12 ألف جنيه «240 دولارًا»، أما “TikTok Universe” أغلى الهدايا يكلف الداعم 30 ألف جنيه «611 دولارًا»، ويصل 18 ألف جنيه «366 دولارًا».
دور شركات وكالات تيك توك.. شبكات منظمة وحسابات وهمية
تبدأ العملية عندما يلجأ صاحب أموال مشبوهة إلى وكالة “تيك توك” تمتلك آلاف الحسابات الوهمية، تقوم هذه الوكالة بشراء الهدايا من أموال العميل القذرة، ثم إرسالها إلى صانع محتوى معين أثناء البث المباشر، المرسلون في الحقيقة موظفون لدى الوكالة، يحصلون على نسبة من الأموال.
بينما يذهب الباقي لصانع المحتوى الذي يعيدها لصاحبها، بعد أن تصبح قانونية في نظر النظام المالي، ورغم الخصومات التي تذهب للمنصة والوكالة والوسطاء، تظل هذه الطريقة مغرية، لسهولة تنفيذها وصعوبة تتبعها، خاصة إذا كان صانع المحتوى مشهورًا، أو يتم الترويج له بكثافة.
الدكتور محمد البحيري: الوجه الخفي والخطير لليڤات التيك توك
يؤكد الدكتور “محمد البحيري” دكتور الذكاء الاصطناعي بالجامعة المصرية الروسية، أن أصبح موضوع غسيل الأموال على السوشيال ميديا، خصوصًا على “تيك توك” والبث المباشر، أمرًا مثيرًا للقلق في واجهة الترندات، والشهرة، وأصبح البعض يستغلون اللايفات كغطاء، لتحويل أموال مشبوهة، حيث يقوم أشخاص، أو حسابات بإرسال هدايا رقمية بمبالغ كبيرة، وهذه الهدايا تتحول إلى أموال حقيقية، فيظهر الأمر وكأنه دخل مشروع من المنصة.

الدكتور “محمد بحيري” دكتور الذكاء الاصطناعي بالجامعة المصرية الروسية
وأشار دكتور الذكاء الاصطناعي، أن المسألة لا تتعلق بالأفراد فقط، بل هناك شبكات منظمة تمارس هذا النشاط، وتستخدم حسابات وهمية، أو أشخاص من خارج البلاد، لتصعيب عملية التتبع، ويمتد القلق إلى أن يصل أن كل ذلك يتم أمام الكاميرات، وبشكل علني، بينما يظن الناس أنه مجرد دعم، أو وسيلة للشهرة، لكن في الحقيقة هناك جرائم مالية يتم تغليفها في صورة “تريند”.
وتعتمد فكرة إرسال الدعم على النية والمعرفة، لكن في نظر القانون الموضوع له معايير واضحة، لو صاحب البث المباشر يعلم أن الأموال قادمة من مصدر مشبوه، أو أن الهدايا جزء من عملية غسيل أموال، ففي هذه الحالة يعتبر شريكًا في الجريمة وتصبح مكتملة الأركان، أما إذا لم يكن على علم، ولا يوجد دليل على اتفاقه معهم، فقد يعتبره القانون حسن النية، لكن هذا لا يعفيه من المساءلة إذا تبين أنه لم ينتبه، أو لم يبلغ عن نشاط مريب.
ويشير “البحيري” إلى أن بالنسبة للشخص الذي يرسل الهدايا، فإذا كان يرسلها بهدف دعم المحتوى فعلًا فلا توجد جريمة، أما إذا كان يستخدم الهدايا كغطاء لتحويل الأموال، فهذا يعد غسيل أموال صريح، ويعرض نفسه للملاحقة القانونية، ويضيف أن خبراء القانون يؤكدون أن هذا النوع من الممارسات يندرج تحت جرائم غسل الأموال، وتمويل أنشطة غير قانونية، ومع أن الدول بدأت تركز على مراقبة التحويلات الرقمية عبر المنصات، إلا أن سرعة انتشار وتطور هذه الأساليب تفوق سرعة تحديث القوانين.
ويختتم الدكتور محمد أن القانون ينظر إلى العلم بالمصدر والمشاركة في الترتيب، لكن من الناحية الواقعية، أي مبالغ ضخمة ومفاجئة في البث المباشر، يجب أن تثير علامات استفهام، لأن “ليس كل هدية نية صافية”، وأصبح الآن البث المباشر وسيلة ربح حقيقة، ويحقق تفاعلًا لحظيًا، وهناك أشخاص يعتمدون عليه كمصدر دخل، يستخدمونه الشركات والمعلنون، كأداة تسويقية فعالة إذا كان المحتوى منظمًا وموثوقًا، لأنه يصل إلى الجمهور بسرعة، ويحقق تفاعلاً لحظيًا، بينما البث العشوائي لا يحظى باهتمام كبير منهم.
المستشار هيثم صقر يوضح أين يقف البث المباشر أمام المحاسبة
يوضح الدكتور “هيثم صقر” مستشار القانون الجنائي، أن تلزم قوانين الضرائب أي شخص مهما كانت مهنته، بتقديم إقرار ضريبي عن دخله، ومن يخالف ذلك يعتبر متهربًا ضريبيًا، أو كاسبًا كسبًا غير مشروع، وتراقب الدولة ذلك بالطبع من خلال التحويلات البنكية، مع وجود تعليمات من البنك المركزي للبنوك بضرورة الإبلاغ عن التحويلات المتكررة، أو المشبوهة، وذلك لحماية الاقتصاد والأمن القومي.

“الدكتور هيثم صقر” مستشار القانون الجنائي
ويضيف الدكتور هيثم أن تمكن الجهات المختصة من توجيه اتهام بغسل الأموال حتى إذا تحصل الشخص على الأموال في شكل هدايا من مواقع التواصل الاجتماعي، نظرًا لعدم منطقية هذا الدعم، خاصة إذا قام بتحويل جزء من المبلغ مرة أخرى للشخص الداعم أو للوكالة، ولا يوجد حاليًا قانون يفرض المحاسبة على من يتلقى الدعم من البثوث المباشرة إلا من خلال المحاسبة القانونية على المحتوى فقط.
وتحاسب الجهات القانونية صانع المحتوى على أن الأموال التي حصل عليها مصدرها مشبوه، لأنه قد يكون جزءًا من عملية غسل الأموال، ويتوافر في هذه الحالة ركن العلم من خلال اتفاق مسبق على تلقي هدايا بمبلغ معين، يحصل منها على جزء ويعيد الباقي، مما يجعله شريكًا في الجريمة.
ويختتم “صقر” أن تفرض القوانين العقوبة على جميع المشاركين في عملية غسل الأموال، مع مصادرة الأموال محل الجريمة وتوقيع الغرامة، ويحاسب القانون أيضًا على تعدد الحسابات، والرسائل المزعجة، ونوع المحتوى، والألفاظ المستخدمة.
نصائح لتجنب المساءلة القانونية عند استخدام تيك توك
ينبغي على مستخدمي تطبيق تيك توك التعامل بحذر مع خاصية البث المباشر والهدايا الرقمية، وعدم الانسياق وراء إغراءات الربح السريع، خاصة إذا كانت هناك ترتيبات، أو اتفاقات غير واضحة المصدر، أو غير مبررة منطقيًا، فالمال القادم من طرق مشبوهة قد يضع الشخص أمام القانون حتى إذا لم يكن مدركًا لكل تفاصيل الجريمة، لذلك يجب التأكد دائمًا من مشروعية أي دخل، أو دعم مالي يتم استقباله عبر المنصات.
ويستحسن أن يلتزم المستخدمون بالضوابط التي تضعها الدولة والبنوك، وألا يقبلوا أي تحويلات مالية متكررة، أو مجهولة المصدر، مع حفظ كل المستندات والإثباتات التي تؤكد سلامة تعاملاتهم على المنصات الرقمية، كما يفضل الاطلاع على شروط وقوانين المنصة، والابتعاد عن أي محتوى، أو أسلوب بث قد يثير الشبهات، أو يخل بالآداب العامة، لضمان استخدام آمن ومسؤول يحمي المستخدم من الملاحقة القانونية.
وأصبح البث المباشر على المنصات الرقمية يتجاوز كونه مجرد وسيلة للتسلية، ومشاركة اللحظات اليومية، ليتحول إلى نشاط اقتصادي مؤثر يحقق أرباحًا ضخمة، وفي الوقت نفسه قد يشكل منفذًا لممارسات غير قانونية، وهذا يفرض على المستخدمين وعيًا أكبر بخطورة بعض التصرفات التي تبدو طبيعية، لكنها تحمل أبعادًا قانونية، وأمنية لا يستهان بها.
ويأتي الوعي الكامل والمسؤولية في التعامل مع هذه المنصات من خلال الالتزام بالقوانين، والتحقق من مصادر الأموال المرسلة، أو المستلمة، وجعل المحتوى الهادف والسلوك الواعي خط الدفاع الأول ضد أي محاولة، لاستغلال هذه المساحات الرقمية بما يضر الاقتصاد، أو الأمن القومي.