متابعات – روفيدا يوسف
في مشهد صادم أثار حالة من الذعر والتساؤلات، شهدت القاهرة عصر يوم الإثنين 7 يوليو 2025 حادثًا خطيرًا، اندلاع حريق ضخم في مبنى سنترال رمسيس التابع للشركة المصرية للاتصالات، الحريق لم يكن مجرد حادث عرضي، بل أصاب واحدًا من أهم المرافق الحيوية في قلب القاهرة.
مما كشف عن ضعف البنية التحتية الرقمية في مصر وفتح الباب أمام تساؤلات ملحة حول مدى جاهزية الدولة للتعامل مع الكوارث التقنية، وتصاعدت من المبنى ألسنة اللهب، ولم تُخلّف فقط خسائر بشرية، بل تسببت في تعطل واسع النطاق لخدمات الاتصالات والإنترنت.
أدى هذا الحريق إلى شلل ملحوظ في عدد من المؤسسات والمصالح الحكومية والخاصة بالقاهرة والجيزة، هذا الانقطاع المفاجئ أثار موجة من الغضب والقلق، وأعاد تسليط الضوء على مدى اعتماد المجتمع على التكنولوجيا، في وقت لا تزال فيه البنية التحتية الرقمية تعاني من نقاط ضعف واضحة.
كيف ولماذا اشتعلت النيران في سنترال رمسيس
بدأ الحريق من الطابق السابع داخل مكاتب موظفي قطاع تكنولوجيا المعلومات، نتيجة ماس كهربائي بغرفة معدات الاتصالات، اشتعلت النيران سريعًا وامتدت إلى باقي الطوابق، مما دفع الجهات المختصة للدفع بـ 17 سيارة إطفاء، واستطاعت الحماية المدنية من السيطرة على الحريق خلال ساعات من اندلاعه، تبعتها عمليات تبريد والتي استغرقت يومًا كاملًا بسبب شدة الحريق.
البداية التاريخيه لسنترال رمسيس.. محطة تحول في مشوار الاتصالات المصرية
لا تنفصل أهمية هذا المبنى حاليًا عن تاريخه العريق، إذ تم افتتاح سنترال رمسيس في مايو عام 1927 على يد الملك فؤاد الأول، وكان يسمى حينذاك “بدار التليفونات” وكان الملك فؤاد قد أجرى بنفسه أول مكالمة هاتفية من خلال سماعة تليفون داخل المبنى، ليبدأ بذلك فصل جديد في تاريخ الاتصالات المصرية، يحمل المبنى اسم ” رمسيس” تيمنًا بالملك الفرعوني رمسيس الثاني.
سنترال رمسيس.. قلب الاتصالات النابض في مصر
يقع سنترال رمسيس في موقع استراتيجي بوسط العاصمة القاهرة، وتحديدًا في شارع رمسيس، ما يجعله من أبرز المحاور الحيوية على مستوى البنية التحتية للاتصالات في مصر، حيث يتمتع السنترال بأهمية كبيرة، ليس فقط على مستوى محافظة القاهرة الكبرى، بل على مستوى كافة المحافظات المصرية، نظرًا لما يوفره من خدمات الربط الشبكي والتقني.
يُعد هذا السنترال نقطة مركزية ومحورية لشبكة الهاتف الثابت في مصر، إذ يعمل كحلقة وصل بين شبكة القاهرة الكبرى وباقي شبكات المحافظات المختلفة، وتُظهر تقديرات غير رسمية، أن ما يزيد عن 40% من حجم الاتصالات المحلية والدولية في مصر يمر عبر سنترال رمسيس، سواء من خلال الخطوط الأرضية التقليدية أو من خلال البنية التحتية الضوئية الحديثة، ما يكشف عن مدى اعتمادية الدولة عليه.
تلعب هذه المنشأة دورًا استراتيجيًا في الحفاظ على استمرارية واستقرار الخدمات الرقمية، لا سيما خلال أوقات الضغط والأزمات، مما يبرز أهميتها كضامن أساسي لأمن واستقرار البنية التحتية الرقمية في البلاد.
ويحتضن السنترال أيضًا وحدات متخصصة لاستضافة البيانات، حيث يُستخدم لتقديم خدمات الحوسبة السحابية، وأرشفة البيانات المؤسسية، ويُعتمد عليه من قبل عدد من الجهات الحكومية في تخزين بياناتها وتشغيل أنظمتها الرقمية، وفي ظل التحول الرقمي الذي تمر به مصر، من المتوقع أن يشهد السنترال توسعًا تدريجيًا؛ ليصبح مركزًا متقدمًا لمعالجة وتخزين البيانات.
التأثير الواسع.. توقف وتعطيل الخدمات الرقمية
لم يكن الحريق مجرد حادث عرضي، بل أظهر بعض الضعف في البنية الرقمية المصرية، حيث تسبب في تعطل واسع لخدمات الإنترنت الإرضي، وشكاوي متكررة من انقطاع الاتصال، كما تأثرت بعض المعاملات البنكية، والمدفوعات الإلكترونية، وتوقف العمل مؤقتًا في البروصة المصرية.
كيف يمكن أن يتجدد الحريق بعد أيام من السيطرة.. أزمة رمسيس لم تخمد بعد
رغم إعلان السيطرة على الحريق الكبير الذي اندلع في سنترال رمسيس يوم الإثنين 7 يوليو، عادت النيران لتشتعل مجددًا مساء الخميس 10 يوليو 2025، في مشهد أعاد القلق إلى الشارع المصري وفتح الباب لتساؤلات جديدة، حول مدى تأمين البنية التحتية الرقمية في البلاد.
الاشتعال هذه المرة كان في الطابق الخامس من المبنى الخلفي للمجمع، مما استدعى تدخلًا عاجلًا من قوات الحماية المدنية التي دفعت بسلالم هيدروليكية وسيارات إطفاء جديدة، وأفادت مصادر رسمية أن سبب التجدد يعود إلى بقايا مواد قابلة للاشتعال، لم تعالج بالكامل، إلى جانب رواسب كربونية على الأسلاك والألياف الضوئية.
وأوضحت تقارير أمنية أن الحرارة المتبقية من الحريق الأول، إلى جانب عمليات التبريد غير المكتملة، ساهمت في إعادة الاشتعال، ما أدى إلى إغلاق شارع رمسيس مجددًا لساعات، وسط استنفار أمني وفني لضمان عدم امتداد الحريق مرة أخرى.
أستاذ الأنظمة الذكية بجامعة الإسكندرية يوضح: حريق سنترال رمسيس إنذار مبكر لواقع البنية الرقمية في مصر
يوضح الدكتور “أحمد بهاء خيري” أستاذ الأنظمة الذكية بجامعة الإسكندرية، أن الحريق الذي نشب قبل أيام في سنترال رمسيس لم يكن مجرد حادث عرضي، بل جاء كناقوس خطر، “أي تحذير شديد بوجود خطر وشيك” يدق بشدة على أبواب التحول الرقمي المصري، ليطرح سؤالًا جوهريًا هل بنينا بالفعل بنية تحتية رقمية آمنة، أم أننا نضع بياناتنا الحيوية في سلة واحدة قابلة للإحتراق؟.

الدكتور “أحمد بهاء خيري” أستاذ الأنظمة الذكية بجامعة الإسكندرية
ويستكمل الدكتور حديثه: سنترال رمسيس، ذلك المبنى الضخم في قلب القاهرة، لا يقتصر دوره على توفير خدمات الاتصالات الأرضية والإنترنت، بل يمثل عصبًا حساسًا لتبادل البيانات في قطاعات عدة، من النيابات والمحاكم، إلى المستشفيات والمطارات، حين اشتعلت النيران بداخله، احترقت معه طمأنينة المواطنين والمؤسسات، ولو مؤقتًا، وأعيد فتح ملف الأمن الرقمي المصري من جديد.
ويؤكد “خيري” صحيح أن فرق الطوارئ استطاعت استعادة جزء كبير من المهام خلال وقت قياسي، وهو أمر يُحسب للجهات الفنية، لكن الحادث ترك خلفه تساؤلات مخيفة، حول مدى مركزية البنية التحتية الرقمية في مصر، وغياب التوزيع الجغرافي للبيانات، وضعف خطط “استمرارية الأعمال” حال حدوث كوارث مشابهة.
وإن ما جرى لا يمكن التعامل معه كمجرد “حادث عرضي”، بل يجب اعتباره اختبارًا مصيريًا لقدرتنا على إدارة البنية الرقمية الوطنية في ظل التحديات الأمنية والتكنولوجية المتزايدة، فنحن لا نعيش في عزلة رقمية، بل في عالم معقد يتشابك فيه الأمن القومي مع البيانات، والسيادة مع نظم التشغيل.
أستاذ الأنظمة الذكية: لا يمكن الاكتفاء بإصلاح الأسلاك المحترقة
ويشيد أستاذ الأنظمة الذكية أن الحل لا يكمن فقط في إصلاح المباني المحترقة أو ترميم الأسلاك المحترقة، بل في بناء منظومة رقمية “resilient”، تعتمد على توزيع مراكز البيانات جغرافيًا؛ لتجنب الاعتماد على نقطة واحدة، وإنشاء سحابة وطنية سيادية تحفظ البيانات وتحميها من الفقدان أو الاختراق، تطبيق خطط استمرارية الأعمال والتعافي من الكوارث بشكل فوري، تعزيز الأمن السيبراني والمادي لمراكز البنية الرقمية.
ويشير أنه تم البدء بالفعل مسار التحول الرقمي في مؤسسات الدولة، لكننا الآن بحاجة ماسة إلى تحوّل أعمق نحو أمن رقمي مؤسسي حقيقي، فالعالم لم يعد يتسامح مع الدول التي لا تؤمن بياناتها جيدًا، ولا يغفر لها انقطاعًا قد يبدو عابرًا، لكنه قد يكون مكلفًا استراتيجيًا.
ويواصل الدكتور “أحمد” أن حادث سنترال رمسيس يجب أن لا يمر مرور الكرام، إنه إنذار للحكومة، للقطاع الخاص، ولنا كمواطنين، فمن لا يؤمن ببنيته الرقمية، يغامر بسيادته الرقمية، وربما أكثر.
في ضوء ما كشفه حادث سنترال رمسيس من ثغرات خطيرة في البنية التحتية الرقمية، يصبح من الضروري ألا يُطوى الملف تحت بند “حادث وانتهى”، فما حدث لم يكن مجرد خلل عابر، بل جرس إنذار صاخب يدعونا جميعًا، حكومة ومؤسسات ومواطنين، إلى إعادة التفكير في أولوياتنا الرقمية.
وتأمين الخدمات الحيوية ووضع حماية البيانات، في صدارة الأجندة الوطنية، فمستقبل الدول يُقاس اليوم بقدرتها على الصمود الرقمي، ونحن الآن أمام فرصة لإعادة البناء بمنظور أكثر وعيًا ومرونة، لأن الحريق ربما أُخمد، لكن السؤال الأهم هل نحن مستعدون لما قد يأتي بعده؟.