تحقيق – نسمة هاني
داخل مجتمعاتنا الحلم دايمًا له تمن، واللي عايز يتجوز أو يسافر لازم يدفع، لكن لما يبقى التمن أكبر من القدرة، والحلم أكبر من الإمكانيات، بيكون فيه تمن تاني خفي، الحرية نفسها مش بس حلم بسيط زي تكوين أسرة أو بداية حياة جديدة، ده حق طبيعي لأي شاب أو بنت لكن في الواقع، آلاف من الشباب في مصر اتحبسوا مش لأنهم ارتكبوا جريمة، لكن لأنهم حاولوا يحققوا أبسط الأحلام، إيصال أمانة، سلفة علشان شبكة أو فرح، كلها خطوات بدأت بنية طيبة، وانتهت خلف القضبان، بتلك الكلمات المؤلمة عبر الشارع المصري في وصفه زواج القرن الحادي والعشرين.
كيف يتحول الفرح إلى كابوس، ولماذا أصبح الزواج مشروعًا اقتصاديًا لا علاقة إنسانية، في مجتمع يقيس قيمة الإنسان بقدرته على الدفع، ويرى الفرح في مظهر الحفل لا في جوهر العلاقة، يجد الشباب أنفسهم محاصرين بين مطرقة التقاليد وسندان الديون.
ومن هنا تبدأ الحكاية، ليست مجرد أزمة مالية، بل أزمة ثقافة ووعي وتشريع، حكاية عن مجتمع بحاجة إلى مراجعة نفسه، وأهالٍ مطالبين بإعادة ترتيب أولوياتهم، ودولة ينبغي أن تحمي شبابها بدلًا من أن تحاسبهم.
صوت الشباب نريد أن نعيش.. لا أن نُحاسب
أوضح “محمد” الذي يؤمن بأن الزواج سهل، أنه لم يسبق له أن وقف أمام أهل عروس يطلبون شبكة بقيمة 200 ألف جنيه، فإن لم يكتب إيصالًا، فلن يتم الزواج، وإن كتبه، يصبح عرضة للحبس، كيف نعيش.
أما “دعاء” فقالت طلبت من أهلي أن أتزوج دون شبكة أو حفل كبير، فالأهم أن نعيش مستورين، لكن ضغط العائلة كان أصعب من أي شيء، وكأن الزواج أصبح مسابقة لمن يدفع أكثر.
وأشار “أحمد” كنت على وشك الزواج منذ عامين، وكل شيء كان جاهزًا، لكن أهل العروس طلبوا شقة تمليك وشبكة بقيمة ربع مليون، فاضطررت للاستدانة من الجميع، وفي النهاية فسخت الخطوبة، وما زلت حتى الآن أسدد ديوني.
وأضافت آية “أكثر ما يؤلم هو أن تشعر أنك سلعة، فالعريس يُقيَّم على أساس قدرته المالية لا على أخلاقه، وعندما أخبرت أهلي أنني لا أريد شبكة، قالوا ماذا سيقول الناس عنا، هل نحن أقل من غيرنا”.
ويقص”حسن” وهو أب لابنتين، فيقول “قررت ألا أطلب من عريس ابنتي أكثر مما يستطيع، لا أريد أن تبدأ حياتها على حساب حرية شاب آخر، لا بد أن نُغيّر تفكيرنا كأهالٍ.
وهنا تتجلى الحقيقة، فالأزمة ليست فقط في القوانين أو الديون، بل في ثقافة تحتاج إلى تغيير يبدأ من داخل البيت.
نموذج مختلف.. اختيارات تصنع الفارق
رغم الضغوط والصورة القاتمة، هناك شباب وأهالٍ قرروا التفكير بشكل مختلف، فكسروا التقاليد المكلفة، وبدؤوا حياتهم دون ديون.
“نور وأحمد” قرراو الزواج في شقة إيجار صغيرة بحي شعبي، فرشا منزلهما بأبسط الإمكانيات، دون شبكة أو حفل كبير، كتبوا كتابهما في المسجد، وأقاما وليمة بسيطة للأهل والجيران، وبعد عامين، تمكنا من شراء شقتهما الخاصة، يقول طارق: أجمل ما في الأمر أننا بدأنا دون ديون، وكنا مرتاحين من أول يوم.
“سارة ” فقد اختارت أن تكسر توقعات الناس، وأخبرت أهلها أنها لا تريد شبكة ولا فستانًا باهظًا، وأقامت حفل زفافها في المنزل. تقول “اخترت الرجل الذي سأعيش معه، لا الصورة التي سيشاهدها الناس ليوم واحد”.
بينما “ن و ك”، أقاما حفل زفافهما في نادٍ صغير تابع للحي، بزينة يدوية من صنعهما وملابس بسيطة، كان الفرح بسيطًا، لكنه دافئ، ولا يزال الناس يتحدثون عن مدى جماله وتميزه.

السجن بسبب ورطة تكلفة الزواج
أرقام تكشف حجم الأزمة
بحسب تقرير لمصلحة الشهر العقاري والعدل، تم تسجيل أكثر من 64 ألف قضية شيكات وإيصالات أمانة في عام 2023، نسبة كبيرة منها متعلقة بالزواج أو السفر، وفي تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بيُقدّر متوسط تكلفة الزواج في مصر بين 120 إلى 250 ألف جنيه، حسب المحافظة ومستوى المعيشة.
أما بحسب بيانات غير رسمية صادرة عن جمعيات دعم الغارمين، فـ 70% من الغارمين في قضايا مالية شباب تحت سن 35 عامًا.
محاولات للإنقاذ مبادرات تغير الواقع
رغم الصورة القاتمة، في محاولات إيجابية ظهرت على الأرض، في محافظة بني سويف، أطلقت مبادرة “زواج بدون ديون”، وساعدت على تزويج أكتر من 200 شاب وفتاة بتكاليف بسيطة، مع إلغاء مظاهر البذخ زي الفرح الكبير أو الذهب الغالي.
وفي كفر الشيخ، عدد من الأهالي اتفقوا على ميثاق عائلي بعدم كتابة شيكات على العريس، والاكتفاء بإيصالات استلام عادية علشان ما يبقاش مهدد بالسجن.
مقارنة عربية.. هل مصر استثناء؟
في دول عربية قريبة من مصر في الظروف الاقتصادية والاجتماعية، بدأت تظهر ملامح وعي مجتمعي بتبسيط الزواج، في الأردن مثلًا، أطلقت وزارة الأوقاف مبادرة “تيسير الزواج” اللي بتشجع على إقامة أفراح جماعية وتخفيض المهور، أما في المغرب، فالمجالس المحلية بتدخل أحيانًا لدعم الأزواج الجدد من خلال قروض بدون فوائد ومساعدات عينية، مع رقابة قانونية على استخدام الشيكات.
غياب الوعي القانوني والاجتماعي في مصر، إلى جانب استمرار الضغوط العائلية، بيحوّل الزواج من بداية لحياة جديدة إلى نهاية للحرية.
أمل في التغيير
الأزمة ليست مجرد مسألة قانونية، ولا أرقامًا تُسجَّل في محاضر الشرطة، بل هي أزمة مجتمع يقيس الفرح بالتكاليف، ويساوي الرجولة بالدين، إن الحل الحقيقي يبدأ منّا، من أسرٍ تُخفف من المطالب، وشبابٍ يواجهون الواقع بدلًا من الركض خلف صورة مستحيلة، ودولةٍ تحمي بدلاً من أن تُحاسب.
مبادرات كـ”زواج بلا ديون” تمثل بداية واعدة، لكن الأمل الأكبر يكمن في ثقافة جديدة، تدرك أن الستر لا يُقاس بالذهب، وأن الكرامة أسمى من مظاهر الاحتفال.
دور الدين.. الستر أولى من المظاهر
في وسط دوامة التكاليف والضغوط، يظل صوت الدين المعتدل منارة تهدي إلى أن الزواج في الإسلام قائم على التيسير، لا على المبالغة أو الاستدانة.
وقد قال الشيخ “هاني محمد” الزواج عبادة، وليس مشروعًا استثماريًا، فلا وجود في الشريعة لما يُعرف بشبكة بقيمة مئتي ألف، أو حفل زفاف في فندق بخمسين ألفًا، فالسُّنة تُقرّ بأن “أقلهن مهورًا أكثرهن بركة”، والستر أولى من المظاهر، والدين لا يُرضي الله ولا عباده، الرسالة واضحة حين نجعل من الدين مرشدًا لنا، سندرك أن كل ما هو بسيط هو الأكرم.
تشريعات غائبة وحلول ممكنة
رغم ضخامة الأرقام وخطورة الأزمة، لا يوجد حتى الآن قانون مصري يُفرّق بين الدين الناتج عن مشروعات تجارية، والدين الناتج عن مناسبات اجتماعية زي الجواز أو السفر.
رأي قانوني.. أزمة مجتمع وليست جرائم فردية
المستشار محمد مختار خبير قانوني يوضح “فيه فراغ تشريعي واضح، المطلوب تعديل قانون الإجراءات الجنائية بحيث يتيح تقسيط الغرامات بدل الحبس، خاصة في القضايا الاجتماعية، كمان ممكن الدولة تطلق صندوق قومي لدعم الزواج، يضمن للشباب حد أدنى من المساندة بدون ما يكتب إيصالات توصلوا للحبس، المشرع لسه ما لحقش الواقع، لكن الأزمة بتفرض نفسها، وبتحتاج تدخل عاجل.
ويؤكد أن أكثر من 70% من قضايا الشيكات وإيصالات الأمانة سببها ديون متعلقة بالجواز أو السفر، فيه خلل مجتمعي، الجواز مش مشروع اقتصادي، لكن بقى كده للأسف، لازم نراجع نفسنا، لأن السجون مليانة بشباب ضحايا مش مجرمين.
ثقافة جديدة ممكنة
الحل لا يكمن فقط في المبادرات، ولا في القوانين التي تتغير، بل في إعادة تعريفنا لمفهوم “الفرح” الحقيقي هو الذي لا يحمل دينًا ولا دمعة، والذي يبدأ بخطوة بسيطة، لكنها ثابتة وآمنة، الثقافة الجديدة تبدأ بكلمة “كفى”، وتستمر بمبدأ كرامة الإنسان لا تُقاس بإيصال.
ليس من الضروري أن يتحول الحلم إلى كابوس حتى ندرك أن هناك خطأ ما، حين يصبح الزواج سببًا في دخول السجن بدلًا من أن يكون بداية للسكينة، يكون قد حان الوقت لنراجع أنفسنا، فليس كل تقليد ورثناه يجب أن نستمر فيه، وليس كل طلب من الأهل دليل حب لابنتهم، فأحيانًا يكون عبئًا على شاب لا ذنب له سوى أنه أراد أن يبدأ حياة.
الستر، والكرامة، والرحمة هي الأساس، لا الذهب ولا الصالونات، وأي تغيير كبير يبدأ بخطوة صغيرة، باختيار مختلف، بصوت يقول “كفى”، وبأهل يختارون الفرح ببساطة بدلًا من المطالبة بما يفوق الطاقة، ثمة أمل، وطالما هناك من يفكر، ويحب، ويفهم، سيظل هناك طريق للنجاة.