تحقيق – إيمان أشرف
يلجأ الأطفال والشباب للتخلص من حياتهم في ظل وقوعهم في أزمات نفسية وضغوطات يومية، فيتخذون قرار إزهاق النفس بذات النفس، معتقدين أنهم بذلك يستطيعون التخلص من المشاكل، ولكن الذي لم يكن في الإعتبار هو التخلص من الحياة بأكملها بعد التعرض لآلام شديدة.
ونظرًا لتداول أسعار تلك الحبوب واستخدامها في الأعمال الزراعية، أصبحت بمثابلة شبح الموت داخل المنازل، خاصةً البيوت الريفية؛ لكثرة استعمالها في تخزين الغلال، وعلى الرغم من وجود قوانين رادعة لبيعها إلا إنها منتشرة في الأسواق وسهلة المنال، فكيف تحولت من مادة زراعية إلى سلاح قتل صامت.
القاتل الصامت في بيوت الفلاحين.. حقيقة حبة الغلة
تحتوي أقراص حبة الغلة على مركب فوسفيد الألومنيوم “Aluminum phosphide”، الذي تتحول عند تعرضها للماء والرطوبة إلى غاز “الفوسفين” شديد السُمية، يعمل على توقف القلب، ويشل التنفس، ويدمر أعضاء وأجهزة الجسم، دون وجود مصل فعال له حتى الآن، فتؤدي إلى الوفاة غالبًا خلال ساعات، وتعد نسبة النجاة منها منخفضة وشبه منعدمة.
تستخدم حبة الغلة في الأصل كمبيد حشري، لحفظ الحبوب والغلال من التسوس والحشرات أثناء التخرين، لا سيما في الصوامع والمخازن الزراعية، وأيضًا استخدامها لقتل الفئران والحشرات في الفنادق والمنشآت العامة، فيجب عند شرائها واستخدامها مراعاة الإرشادات المدونة عليها.
ويطلق عليها العديد من الأسماء في مختلف الدول، حيث تسمى بـ “حبة الموت”، و”القاتل الصامت”، وأقراص “AIP”، و”كويكفوس”، و”سيلفوس”، و”فاست فوس”، وبرغم اختلاف اسمائها التجارية، إلا أنها تحتوي على نفس المادة السامة، التي تستخدم لحماية الحبوب والغلال من الحشرات أثناء التخزين.
عوامل إنتشار حبة الغلة في الأسواق
على الرغم من خطورة حبة الغلة، إلا أنها تبقى متاحة ومتداوله في الأسواق وبين أيدي البائعين، ذلك ما يزيد من استخدامها لأغراض غير الزراعية، ويأتي في الصدارة إنعدام الرقابة على بيع المبيدات، حيث لا توجد آلية فعالة للمراقبة والحد من بيع تلك المواد، مما يجعلها متوفرة في محلات المبيدات الزراعية دون رقابة.
بالإضافة إلى بيعها بأسعار منخفضة، وذلك ما يسهل على الشباب اللجوء إليها للتخلص من حياتهم، فالكثير لا يعرفون آثار تلك الحبة عند تفاعلها مع المياه أو الرطوبة، معتقدين أن يمكنهم إسعافهم وإنقاذهم بسهولة ويسر، مما يشجع على استخدامها في ظل الضغط النفسي، فبعض البيئات تفتقد الخدمات النفسية لمساعدة الشباب للتخلص من اعبائهم.
طبيب السموم يحذر من خطورة حبة الغلة ويوضح أهمية توعية الأهالي
وقال الدكتور “نبيل عبد المقصود” استاذ السموم بجامعة القاهرة: «يجب تعميم برتوكول التعامل مع حالات حبة الغلة في المستشفيات وتدريب دكاترة الطوارىء للتعامل مع تلك الحالات خصوصًا في الأرياف، بالإضافة إلى نشر الوعي بين الأهالي، وذلك عن طريق الإعلام المرئي والمسموع».

الدكتور نبيل عبد المقصود استاذ السموم بجامعة القاهرة
وتحدث “نبيل عبد المقصود” حيث أشار إلى عنصر أهمية عنصر الوقت والاستعمال الخاطئ، حيث كلما تأخرت الحالة للعرض على الطبيب كلما زادت خطورتها، وأيضًا عند إعطاء المريض اي نوع من السوائل فيزيد من تفاعل الحبة في معدة المريض، فيتم تصعيب الأمور على الطبيب.
وأشاد “عبد المقصود” بالتحجب القوي في بيع تلك الاقراص، موضحًا أهمية وجود مندوب زراعي هو الوحيد المسموح له ببيع تلك الحبوب، ولا يتوقف دوره علي بيعها فحسب، بل يقوم بنفسه بوضع الحبوب السامة في الصوامع، للتأكد من عدم تداولها بين الأيادي، فيمكن للفلاح ان يتركها في اي مكان أو استعمال جزء منها وترك جزء آخر في متناول أطفاله.
وأوضح “عبد المقصود” اذا تم الشك في وجود حالة تسمم بحبة الغلة، يتم إعطاء المريض زيت جوز الهند، أو زيت البرافين، الذين يعملون على احتواء الحبة في المعدة وبطىء معدل تفاعلها داخل الجسد، مما يساعد الكبيب في محاولة إنقاذ المريض، فحتى وإن لم يكن يوجد حالة تسمم لن تضر تلك الزيوت الجسد.
دقائق بين الحياة والموت.. أعراض التسمم بـ حبة الغلة
تظهر أعراض التسمم بحبة الموت بسرعة، وذلك خلال أول ساعة من تناولها، بسبب تفاعل الحبة مع المعدة وإنتاج غاز الفوسفين السام داخل الجسد، وتختلف الأعراض حسب كمية الحبة التي تم تناولها، فتأتي أعراض مبكرة، اي خلال دقائق إلى ساعة، مثل غثيان وقيء شديد غالبًا برائحة تشبه السمك الفاسد، وألم حاد في البطن، ودوخة، وصداع، وتعرق زائد، والشعور بالمرارة، والخدر، والترنخ، ورائحة مميزة كريهة من الفم.
أما الأعراض شديدة الخطورة التي تحدث بعد ساعات من تناول الحبة، وهي انخفاض شديد في ضغط الدم، وتسارع أو تباطؤ في ضربات القلب، وصعوبة أو توقف في التنفس، وفشل في القلب أو الكلى أو الكبد، وزرقة في الجلد والشفتين بسبب نقص الأكسجين، وفقدان الوعي والدخول في غيبوبة، وتسمم الكبد والكلى، وتلف الغدة الكظرية.
وتحدث الوفاة غالبًا خلال 4 إلى 12 ساعة من التسمم، وأحيانًا أقل من ذلك، خاصةً إذا لم يتم التدخل الطبي فورًا، حيث تتراوح الجرعة المميتة تقريبًا بين 0.5 إلى 1 جرام، أي نصف قرص إلى قرص واحد فقط قادرًا على إنهاء الحياة، بالأخص لدى الأطفال وأصحاب الأجسام الضعيفة، لا سيما الإستنشاق العرضي لكمية بسيطة من غاز الفوسفين في مكان مغلق، يمكن أن يسبب الوفاة.
إرتفاع معدلات إحصائيات الإنتحار في الآونة الأخيرة
تعد حبة الغلة واحدة من أكثر الوسائل فتكًا في مصر، وذلك نظرًا لسهولة الحصول عليها ورخص ثمنها، وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية دقيقة عن الإنتحار بواسطة الحبة، إلا ان أشارت التقارير إلى تزايد ملحوظ في استخدامها كوسيلة للإنتحار، فقد وقع ما يقرب من 2584 حالة إنتحار في مصر من خلال عام 2021، وذلك وفقًا لإحصائيات صادرة عن مكتب النائب العام.
وقد رصدت المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان نحو 322 حالة إنتحار في مصر، وذلك خلال الفترة من أبريل 2023 حتى مارس 2024، أي بمعدل 187 حالة في النصف الأول من العام، و135 حالة في النصف الثاني.
كيفية النجاة من حبة الموت.. الوقاية من الخطر الصامت
ينجو بعض الأشخاص من التسمم بـ حبة الغلة، وذلك يحدث لعدة عوامل منها الجرعة التي تم تناولها، حيث كلما قلت الجرعة زادت نسبة النجاة منها، بالإضافة إلى التدخل الطبي السريع عن طريق غسيل المعدة خلال أول ساعة من تناولها قبل أن يبدأ الجسم امتصاص الغاز، واستخدام الفحم النشط لتقليل امتصاص السم، وأيضًا إعطاء محاليل ودعم الدورة الدموية لتثبيت ضغط الدم والقلب، والرعاية المركزة الجيدة.
وتفرق نوعية الحبة وحالتها في التأثير، فإذا كانت الحبة قديمة أو مفتوحة أو تعرضت للرطوبة مسبقًا يمكن أن تفقد قوتها وتأثيرها، فبالتالي يتولد غاز الفوسفين بكمية أقل، كما لو حدث قيء بعد البلع مباشرة، فبذلك يقوم الجسد بطرد جزء من المادة قبل امتصاصها، وأيضًا الحالة الجسدية العامة للشخص تجعله يتحمل لفترة أطول، على عكس الأطفال وكبار السن فيتأثرون بسرعة.
جهود الدولة للحد من بيع وتداول حبة الغلة
تشدد الرقابة على بيع فوسفيد الألومنيوم “حبة الغلة”، حيث لا تسمح بيعها إلا للجهات الزراعية المرخصة مع فرض غرامات على المخالفين، ومنع البيع للأفراد غير العاملين في الزراعة، والاهتمام بشن حملات توعية تستهدف جميع الفئات، خاصةً في المناطق الريفية لبروز خطورتها والحد من تداولها، ودعم خدمات الصحة النفسية مجانًا، وتدريب الأهالي على ملاحظة علامات الاكتئاب والانتحار.
بالإضافة إلى توفير سبل الرعاية ومراكز دعم نفسي، وتخصيص خطوط ساخنة للمساعدة الفورية متخذين في الإعتبار الفقر والأسباب الإجتماعية لتلك المناطق، وتدريب الأطباء والتمريض على التعامل مع حالات التسمم الشديدة، وتجهيز وتوفير المراكز بالأدوية والتقنيات التي يمكن ان يحتاجونها.
وقد جرم القانون بيع هذه المواد للمستهلكين العاديين، وتشترط تسجيلها والتعامل معها مثل المواد الخطرة، ومن خلال هذه الحملات التوعوية يمكن مواجهة الفكرة السائدة بأن حبة الغلة تمثل وسيلة سريعة للهروب والموت، وتقديم بدائل صحية وآمنة للتعامل مع المشاعر السلبية والأزمات.
وبذلك لم تعد حبة الغلة مجرد مبيد زراعي، ولكن اصبحت سم في متناول اليد، وللحد من تلك الظاهرة لابد من نشر الوعي، وعدم التهاون بمشاعر الآخرين، فيموت شبابنا أمام أعيننا، ليس لأنهم أرادوا التخلص من حياتهم، بل لضعف الرقابة وعدم تلبيه احتياجاتهم، فتتعدد أسباب الموت والإنتحار، والضحايا هم أبنائنا.