تقرير – روفيدا يوسف
شهدت مصر واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التي عرفها التاريخ، مجاعة طاحنة سُميت بـ”الشدة المستنصرية”، نسبة إلى الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، والتي تحولت خلالها شوارع القاهرة إلى ساحات للموت جوعًا، ووصلت بالبشر إلى التهام بعضهم البعض للبقاء على قيد الحياة، فما الذي حدث؟ وكيف وصلت البلاد إلى هذه الحالة المروعة.
حين جاع المصريون حتى الموت.. مأساة “الشدة المستنصرية” التي لا تُنسى
في منتصف القرن الخامس الهجري، وتحديدًا بين عامي 457 و464هـ، 1065-1071م، عاشت مصر واحدة من أسوأ فترات الجوع في تاريخها، هذه المجاعة لم تكن مجرد أزمة غذائية عابرة، بل كانت كارثة إنسانية واجتماعية غير مسبوقة، حوّلت القاهرة حاضرة الخلافة الفاطمية، إلى مدينة يملؤها الموت واليأس.
الخلفية التاريخية.. المستنصر بالله أطول خلافة في زمن الانهيار
وقعت المجاعة في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، الذي دام حكمه ستين عامًا، وهو من أطول العهود في التاريخ الإسلامي، لكن في سنواته الأخيرة انهارت الدولة اقتصاديًا وسياسيًا، والصراعات على السلطة داخل القصر، وتحكُّم قادة الجند في مفاصل الدولة، وانهيار الجهاز الإداري، كانت كلها مقدمات لانفجار الأزمة.
النيل يجف.. والحياة تتوقف
كان السبب الأبرز وراء المجاعة هو انخفاض منسوب مياه النيل بشكل غير مسبوق، ما أدى إلى تلف المحاصيل الزراعية وانتشار الجفاف، وبالتالي انعدام الغذاء وغلاء الأسعار بصورة جنونية، توقفت الزراعة، واختفت الخضراوات والحبوب من الأسواق، وبدأ الناس في التقاتل على ما تبقّى من طعام.
مشاهد الرعب في شوارع القاهرة
في ظل هذا الوضع المأساوي، أصبح رغيف الخبز يُباع بدينار ذهبي، واضطر الناس إلى أكل القطط والكلاب بل وحتى الجيف، وتروي كتب التاريخ مشاهد صادمة عن تحول الناس إلى أكل لحوم البشر، ذكر المؤرخ المقريزي في “الخطط” أن بعض الأسر كانت تختطف الأطفال وتطبخهم وتأكلهم.
وتشير الروايات إلى أن الخليفة نفسه باع أثاث قصره ومحتوياته، من الذهب والحرير والمجوهرات والمخطوطات النادرة، لتأمين بعض الطعام لحاشيته، لم يعد هناك فرق بين غني وفقير، فالجميع سقط تحت وطأة الجوع والعجز.
روايات مؤلمة في كتب التاريخ عن مجاعة مصر الكبرى
أجمع المؤرخون على أن مجاعة “الشدة المستنصرية” كانت من أبشع الفترات في تاريخ مصر، حيث أشار المؤرخ “ابن إياس” إلى أن المجاعة دفعت الناس لأكل الميتة والكلاب والقطط، بل ووصل بهم الجوع إلى اصطياد المارة من الشوارع والأسطح لالتهامهم.
ووثق المؤرخ “تقي الدين المقريزي” في كتابه “إغاثة الأمة بكشف الغمة” أن الناس لجأوا لأكل الجيف، وانتشر القتل وساد الفساد، وبلغ الغلاء ذروته حتى بيع كلب ليؤكل مقابل خمسة دنانير، وأكد أن تلك المجاعة لم تكن مجرد أزمة غذائية، بل كارثة إنسانية واجتماعية كشفت انهيار الدولة وتفكك مؤسساتها، حيث عمّ الخوف، وفسدت الجند، واختفى الأمن من الطرقات.
فوضى أمنية وانهيار شامل
مع تفكك السلطة وغياب الأمن، انتشرت العصابات المسلحة التي كانت تسيطر على الطرق والمخازن، أصبح الناس يخشون الخروج من منازلهم، ليس خوفًا من السرقة فقط، بل من أن يتم اختطافهم وقتلهم لأجل أكلهم ووصف المؤرخ ابن تغري بردي الوضع في كتابه النجوم الزاهرة قائلًا: “الناس تبادلوا أبناءهم ليأكلوهم”.
نهاية الكارثة.. منقذ اسمه بدر الجمالي
استمرت المجاعة سبع سنوات كاملة، ولم تنتهي إلا عندما استدعى الخليفة القائد الأرمني بدر الجمالي، والي عكا آنذاك، الذي دخل القاهرة بقوة عسكرية منظمة، نجح الجمالي في بسط الأمن، وإنهاء حكم الميليشيات، وتنظيم الإدارات الحكومية، وضخ الحبوب والأساسيات في الأسواق، فبدأت الحياة تعود تدريجيًا إلى طبيعتها.
تظل “الشدة المستنصرية” من أبشع الكوارث التي شهدتها مصر عبر العصور، حيث اجتمع فيها الجفاف والفساد والفوضى ليخلقوا مشهدًا مروعًا، تعتبر هذه الشدة تحذير دائم من التراخي في إدارة الأزمات، والتهاون في حفظ كرامة الإنسان.