تحقيق – مريم ناصر
في وقتنا هذا لم تعد ظاهرة هروب الفتيات من منازلهن مجرد حالات نادرة الحدوث، بل أصبحت مؤشرًا على أزمة عميقة داخل بعض البيوت المصرية، ولقد بات من الواضح أن ما كان يعد في السابق سلوكًا متكررًا للشباب فقط، فقد أصبح اليوم سلوكًا متكررًا للبنات، وفي حين يحمل كثيرون المسؤولية للأهل بسبب العنف، أو الإهمال، أو كبت الحرية، يرى ٱخرون أن الفتاة نفسها قد تفتقر النضج الكافي.
ويؤدي تجاهل دور الفتاة نفسها في اتخاذ قرار الهروب يبقى هناك نقص في فهم وإدراك الصورة بالكامل، فالهروب ليس هو الحل، بل قد يكون بداية لسلسلة من المخاطر، وإنذار لتصاعد الكوارث، تبدأ بالتشرد ولا تنتهي عند الاستغلال، بل تتجاوز هذا الحد، وبين أسرة تفتقد الحوار والتفاهم، وفتاة تفتقر للوعي أو الوعي الكامل بالعواقب، تضيع الحدود ومن هنا تبدأ الكارثة الغير محسوب لها.
الهروب الصامت.. قصص من الواقع للبحث عن الأمان
حين يصبح الرفض بداية الكارثة والهروب
قالها والدها بنبرة يملؤها الحزن والأسى: “البنت هربت بسبب الحب”،وأضاف بصوت مكسور: “لم نكن نتخيل يومًا أن تفعل ابنتنا شيئًا كهذا، لم نبخل عليها بشيء، كانت مهذبة، هادئة، وعلى خلق، ولكن يبدو أنها كانت تحمل شيئًا في قلبها لم تبح به يومًا”، ومن هنا تبدأ الكارثة الغير ممهد لها.
بدأت القصة عندما تقدم شاب من أبناء الحي لخطبتها، كانت السعادة واضحة على ملامحها، وكانت عيناها تلمعان كلما ذكر أحد اسمه، لكن الشاب لم يكن ميسور الحال، ورأيناه كأهل غير مناسب، فرفضناه بهدوء، وقلنا لها: “هذا نصيب، وربما يعوضك الله بخيرٍ منه”، سكتت حينها لكننا لم نكن نعلم أن داخلها كان يمتليء بالغضب والانكسار.
ومضت أسابيع قليلة ثم اختفت، لم تودع أحدًا، ولم تأخذ شيئًا يدل على نية الهروب، لكنها تركت وراءها صدمة موجعة وورقة صغيرة كتب فيها: “أنا أسفة، لكنني لم أرغب أن أعيش ميتة، وقلبي لا يزال حيًا”، منذ ذلك اليوم، لم تجف الدموع، ولم يتوقف أخوها عن البحث في الشوارع، والناس يتحدثون، والكل يروي رواية، ويضيف تفصيلة جديدة، بينما الحقيقة ما زالت غائبة.
هربت في لحظة غفلة.. وكان الحب هو الطريق
بدأت الحكاية بهدوء، كانت لا تزال فتاة في المرحلة الثانوية، تقف على أعتاب النضج، تخطو خطواتها الأولى نحو الحياة، عندما تعلّق قلبها بشاب يختلف عنها في الدين، لم يكن الأمر مجرد حب، بل كان انجرافًا خلف كلمات ناعمة، ووعود مغلفة بالتمرد، واستغلالًا لمشاعرها البريئة، كانت تُحادثه خفية، تُخفي الهاتف، وتفتح له قلبها دون أن تنتبه أنها تقترب من الهاوية.
حتى جاء اليوم الذي اكتشفت فيه شقيقتها الأمر، وأخبرت والدها، وأشتعل الغضب، وانتزع الأب الهاتف من يديها، ظنًا منه أنه بذلك أغلق الباب وأنهى الحكاية، لكن في اليوم التالي، خرجت إلى درسها كعادتها، ولم تعد، ساعات طويلة مرت، والقلق يخنق أفراد الأسرة، بدأت المكالمات، وعمليات البحث، لكن الهاتف الصغير الذي كان بحوزتها ظل يرن بلا إجابة.
وفي الوقت الذي كانت فيه العائلة تبكي وتدعو وتبحث، كانت هي قد غادرت إلى القاهرة مع ذلك الشاب، وسكنا معًا في منزل غريب، تقيم فيه والدة صديقه، التي أقنعها بأنها “أخته”، مر شهران ونصف كالكابوس على العائلة، بلاغات، محاضر، قضايا، ودموع لا تجف، حتى جاء اليوم الذي تم فيه القبض على والد ووالدة الشاب، بعد تعقب طويل.
ظهر الشاب بعدها وتم القبض عليه، وخلال التحقيقات، اعترف بمكان الفتاة، في لحظة واحدة انهارت الصورة، وعاد الأب بإبنته إلى المنزل، بقلوب منكسرة وعيون لا تعرف للفرح طريقًا، ورغم كل ما حدث، تخلى الأب عن القضية، وقال كلمته: “أنا مش عايز أضيعها أكتر.. كفاية اللي حصل”.
حين يصبح الهروب أهون من البقاء
لم تكن الحياة داخل البيت كما يجب أن تكون، فالدفء غاب، والحوار مفقود، والصوت الأعلى كان دومًا للضرب والشتائم، فتاة في سن المراهقة عاشت في بيت تملأه القسوة، وكان والدها يستخدم الإهانة وسيلة للتربية، بينما الأم تلتزم الصمت، لم يكن الضرب فقط هو ما يؤلمها، بل الشعور الدائم بأنها لا تُرى ولا تُسمَع.
مع كل محاولة لي لإبداء الرأي أو طلب شيء بسيط يتم الرد بالمقاطعة والرفض، “كنت دايمًا بسأل نفسي، ليه بيتقال لا على كل حاجة حتى لو كانت بسيطة، وليه صوتي مش مسموع”، وفي ليلة مشحونة بالغضب والعنف، شعرت أن البقاء أصبح مستحيلًا، جمعت بعضًا من أغراضها وخرجت من المنزل دون وجهة واضحة، كانت تعرف فقط أنها لم تعد.
فتاة تختار الضياع لتصبح حرة
بدأت تشعر فتاة منذ بداية حياتها بأن البيت الذي نشأت فيه يضيق على أنفاسها، لم تكن تملك صوتًا مسموعًا، ولم يُسمح لها يومًا أن تختار، كل طلب كانت تواجه به كلمة واحدة فقط: “لا”، لم يكن لديها غير الهروب، كانت تأخذ ما يتيسر من المال وتهرب، تغيب لأيام، حتى صارت شهور الغياب أمرًا معتادًا، ثم تعود حين تنفد النقود أو تنفد الخيارات.
كل مرة تعود فيها كانت تجد الوجوه نفسها والصمت نفسه، والأسلوب نفسه، أهلها لم يتساءلوا: لماذا تهرب؟، بل كانوا يركزون فقط على إعادتها، وتكررت القصة تطلب ويترفض طلبها، تهرب وتعود، وكل مرة كان الخوف ينهش قلب والديها، ومع ذلك لم يفكروا يومًا في احتوائها أو فهمها، لكن المرة الأخيرة كانت مختلفة اختفت تمامًا، سنتان ونصف من الغياب الكامل.
ويظل والداها يبحث عنها يقتربان من مكانها أحيانًا، لكنهم لم يفهماها، ثم عادت ولكن عودتها لم تكن إلى بيتهم، بل إلى نفسها، عادت فتاة أخرى إمرأة عاملة ناجحة صاغت لنفسها طريقًا ولا تعتمد على أحد، لم تكن تلك الطفلة التي كانت تهرب خائفة، بل صارت من اختارت الرحيل بحثًا عن الحرية.
رأي المجتمع بين الهروب قرار متهور أم ضغوط مجتمعية
يقول “يوسف عبدالعزيز” ما نشهده اليوم هو نتيجة مباشرة لتأثير مواقع التواصل الإجتماعي والانفتاح الزائد على العالم الخارجي، فقد أصبحت الفتيات يتأثرن سريعًا بما يعرض عليهم عبر الإنترنت، مما يدفع بعضهم للاعتقاد بأن الهروب هو أسهل وسيلة للهروب من الواقع.
ويضيف صحيح أن بعض الأسر تتحمّل جزءًا من المسؤولية، خاص حين ترفض باستمرار أو تقيّد حريتها، لكن هذا لا يبرر اتخاذ قرار خطير مثل الهروب، الحل الحقيقي يكمن في الحوار والتفاهم، لا في الانسحاب.
ويؤكد “ناصر كامل” أعلم أن الفتاة لا تفكر في الهروب ما دامت تجد فيه الأمان والحب ويقول: “البنت لا تهرب من بيتها إلا عندما تفقد الإحساس بأنه بيت فعلًا، هناك أمهات يفرضن ضغوطًا نفسية على بناتهم، ويحاصروهم بالخوف بدلًا من التقرب منهم واحتوائهم، وكذلك بعض الآباء يفعلون الشيء نفسه، بينما المجتمع ينظر إلى الفتاة وحدها كأنها المسؤولة، ويغفل عن دور الأهل الذين قد يكونون السبب الحقيقي فيما حدث”.
وتقول “وسام أحمد” أن ظاهرة هروب البنات من البيت تعد جريمة في حق البنت نفسها، لأن مهما حدث من مشاجرات ومناوشات في المنزل لا يصل الأمر أن تترك البيت، ويجب على الفتيات التفكير في عواقب ترك المنزل من قلق الأهل عليها وكلام الناس الذي لن ينهى حتى بعد عودتها مثل “دا سابت البيت وطفشت”، وتبدأ نظرات التي من بينهم اشمئزاز، والأخرى شماتة.
يجب على البنات التفكير في المشكلة وأساسها من البداية بدلًا من تركها للمنزل، وإيجاد حل، ووضع فكرة أن عائلتها تريد مصلحتها، وهم الداعم الوحيد لها بدلًا من الهروب لابد من مواجهة الموقف.
وتوضح “نجوى داؤد” أن الفتاة لا تلجأ إلى الهروب من منزلها إلا عندما تفقد فيه الشعور بالأمان والراحة والاحتواء، وتشدد على أن المنزل يجب أن يكون حضنًا دافئًا، لا سجنًا يخنق النفس، حتى لا تضطر الفتاة إلى البحث عن الأمان في أماكن أخرى، وإن كان هذا الطريق محفوفًا بالأخطاء والمخاطر، أنا لا أبرر الهروب فالهروب ليس حلًا، بل قد يكون بداية لانهيارات نفسية.
بالإضافة إلى إن ربما تندم الفتاة طوال حياتها، لكن قبل أن نحكم عليها، فالمشكلة في كثير من الأحيان تكمن في أسلوب التربية، والبيئة الأسرية المحيطة، حين يسود البيت الحوار والتفاهم، وتكون الأم صديقة لابنتها لا مجرد موجِّهة، فإن فكرة الهروب لا تكون مطروحة أصلًا، التربية الحقيقية لا تقوم فقط على الأوامر والمنع، بل على الحب والاحتواء والفهم العميق.
وجهة رأي الطب النفسي.. الهروب نتيجة خلل بيئي وأسري
يرى الدكتور “عماد فرج وديع” الطبيب النفسي أن هروب الفتاة من منزلها لا ينبغي النظر إليه كتصرف متهور أو خطأ فردي، بل هو انعكاس لتراكمات نفسية عميقة وظروف اجتماعية قاسية، غالبًا تكون غياب الحنان، والرعاية داخل الأسرة، ما يدفع الفتاة تدريجيًا إلى فقدان الثقة بنفسها وبمن حولها، وحين لا تجد من يسمعها أو يحتويها، تصبح أكثر عرضة للانهيار.

الدكتور “عماد فرج وديع”
ويؤكد الدكتور إلى أن معاملة الأهل تمثل محورًا أساسيًا في هذه الظاهرة، لكنها ليست العامل الوحيد، ففي بعض الأحيان، تتدخل أطراف خارجية، كعلاقات عاطفية غير ناضجة، أو وعود زائفة من شاب يوهمها بالحب والاهتمام، فتجد في الهروب مخرجًا من قيود الواقع نحو وهم الاستقرار، ثم تتفاجأ بأنها وقعت فريسة للإستغلال بشتى الطرق.
كما تلعب البيئة الأسرية دورًا محوريًا في تشكيل وعي الفتاة، ففي بعض البيوت، يكون الانشغال الدائم، أو الإهمال العاطفي، سببًا في جعل الفتاة تشعر بأنها غير مرئية، بينما يوجد الكثير من الأهالي يغفلون عن أخطاء الأبناء الذكور بإعتبارها “أمورًا عادية”، ومن جهة أخرى تحاسب الفتاة على كل تفصيلة، مما يخلق داخلها شعورًا بالتمييز وعدم العدالة.
ولا يمكن تجاهل أثر الضغوط المجتمعية مثل تدخل الجيران، أو العنف الأسري، أو الطلاق، أو حتى التحرش من أحد أفراد العائلة، فهذه الأوضاع تشكل بيئة طاردة، تدفع الفتاة للهروب من واقع مؤلم لا تملك تغييره، وينبه الدكتور إلى أن الحل لا يبدأ بعد وقوع الكارثة، بل من داخل البيت، عبر بناء علاقة قائمة على الثقة، والتفاهم، والإحتواء.
ويشير إلى أن يجب على الأمهات أن يقتربوا من بناتهم وأن يفهموا احتياجاتهم النفسية والعاطفية والمادية، مع توفير بيئة آمنة تشجع على التعبير لا الكتمان، كما أن تشجيع الفتاة على العمل والإستقلال المالي بطريقة آمنة يسهم في تعزيز ثقتها بنفسها ويشعرها بقيمتها داخل الأسرة.
ويختم الدكتور “وديع” بالتأكيد على أهمية الدور الوقائي للعلاج النفسي، حيث أن الانتباه المبكر لتغيرات السلوك، واللجوء للمختصين عند الضرورة، ويؤكد أن الفتاة مطالبة هي الأخرى بأن تتحلى بالوعي الكافي لتمييز الخطأ، وأن لا تسمح لأي شخص بالتلاعب بمشاعرها أو التأثير على قراراتها.
في النهاية فإن هروب الفتيات لا يعد مجرد تصرف فردي، بل نتيجة لتراكم ضغوط نفسية واجتماعية داخل الأسرة، حين يُستبدل الحوار بالخوف، والثقة بالمنع، تفقد الفتاة شعورها بالأمان، والحل لا يكمن في التقييد أو العقاب، بل في خلق بيئة دافئة يسودها التفاهم والاحتواء، فحين تجد الفتاة الأمان في بيتها لن تفكر في الهروب منه.